[esi views ttl="1"][esi views ttl="1"]

أحزان الليلة الأخيرة من حياة عَمارة اليمني

الشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح - نشوان نيوز - أحزان الليلة الأخيرة من حياة عَمارة اليمني

(الزَّمانُ: تساوى النهارُ مع اللَّيلِ، في ندرةِ الضوءِ، لكنّهُ كانَ ليلاً ثقيلَ الخطى عابساً. والمكانُ: ذراعٌ منَ الأرضِ، زنزانةٌ يتكوَّرُ فيها السَّجينُ الذي سيقدِّمُهُ الشعرُ للموتِ.. تركضُ أشجانُهُ عبرَ لونِ السِّؤالِ) :

لماذا تغرَّبْتُ عنْ وطني
وهجرْتُ (زَبيدَ ([2])) التي يتنازَعُني حبُّها
والحنينُ على نُطُعِ الموتِ؟
ألمحُ شُرْفاتِها والطفولةَ
وجهَ الشبابِ النَّضيرِ،
التَّآمرَ والكيدَ،
أسترجعُ الأصدقاءَ الوفيِّينَ
والزّائفينَ،
ورحلتَنا في المساءِ الحزينْ.
السيوفُ يمانِيَّةٌ
والأكفُّ منَ الهندِ راعشةٌ
لا تطيقُ المقابضَ..
منْ سيخلِّصُني منْ عذابي وموتي؟
ومنْ يَنْزِعُ السيفَ عنْ عُنُقي المستكينْ؟
أشتكي ل(المقَطَّمِ)
للنِّيلِ حزني
وَمَسْغَبَتي،
وأبثُّ المآذنَ أنباءَ فاجعتي..
يرفضُ النِّيلُ صوتي
يديرُ (المقَطَّمُ) لي ظَهْرَهُ،
والمآذنُ لا تستطيبُ صَلاتي!
لماذا؟
لأني غريبٌ
و (مملكةُ النفطِ) ترسلُ خَلْفي جواسيسَها..
أينَ يخفي قصائدَهُ؟
كيفَ يأكلُ؟
أينَ ينامُ؟
ألا يتحدَّثُ جسمي الهزيلُ
وثوبي المرقَّعُ عنْ فاقتي؟
والجفونُ التي يتقرَّحُ فيها الحنينُ
ألا تتحدَّثُ عنْ سُهْدِها
والعذابْ؟

(ينحني الصوتُ، تنكسرُ الكلماتُ على فَمِهِ؛ وَهْوَ يهتزُّ منتحباً).

ليسَ لي وطنٌ،
كنتُ أحسبُ أنَّ النجومَ
وكلَّ السَّماواتِ والأرضِ لي وطنٌ،
غيرَ أنَّ النجومَ،
السَّماواتِ والأرضَ
صارتْ تضيقُ بجمجمتي
حينَ صارَ لها وطنٌ يتعذَّبُ في الأَسْرِ،
يشقى بأبنائِهِ،
يتشكَّلُ في كلِّ ثانيةٍ مأتماً
ويسافرُ في الرُّعْبِ مغترباً،
يشتكي عُقْمَ أيّامِهِ
والخياناتِ..
لا يجدُ المشتكى،
تتجمَّدُ آهاتُهُ في عيونِ بنيهِ دماً،
وَهْوَ يُفْضي بأحزانِهِ
وعذاباتِهِ للصخورِ - الترابْ.

(تتزاحمُ أشجانُهُ، تصغرُ الأرضُ في رأسِهِ.. أينَ يكتبُ آخرَ أصواتِهِ؟ الجبالُ حصىً، والتُّخُومُ زنازنُ مقفلةٌ، والطريقُ انحناءاتُ لا تستبينُ معالِمُها).

لم أكنْ شاعراً
يتمسَّحُ بالكلماتِ الغليظةِ،
ينبشُ قلبَ القواميسِ
والكُتْبِ عنْ حكمةٍ،
يتهادى وراءَ المواكبِ منتفخاً..
كنتُ مبعوثَ (مأربَ) للنِّيلِ،
أسألُ (إيزيسَ) :
كيفَ استطاعَتْ تلملمُ أوصالَ
معبودِها؟
عَلَّني أتوصَّلُ يوماً لتجميعِ أوصالِ
معبودتي،
وأعيدُ لها وجهَها
والبكارةَ،
تاريْخَها الخِصْبَ،
أبحثُ في سُرَّةِ الأرضِ،
عنْ عطرِ أيّامِها
عنْ مدائنَ للحُلْمِ
عنْ مُهْرَةٍ تتمرجحُ
خلفَ رموشِ السَّحابْ.

(تختفي في السماءِ النجومُ، تدثِّرُها غيمةٌ بالكآبةِ والحزنِ. في الأرضِ يبتلعُ الرُّعْبُ لونَ المصابيحِ، وَهْوَ يقلِّبُ جُثَّتَهُ ضارعاً).

أتحسَّسُ رأسي..
غداً سيفارقُني!
تاركاً خلفَهُ الحبَّ والحُلْمَ
والحزنَ
والوطنَ المستباحَ المهاجرَ في الدمعِ.
أشعارُهُ سوفَ تغدو لأجفانِهِ كفناً،
وصلاةً لأطرافِهِ..
منْ يصلّي على جسدٍ ضاعَ
بينَ التفج‍ُّعِ
والاغترابْ؟
المشانقُ في (ساحةِ الموتِ) منصوبةٌ،
ودمي هاربٌ منْ عروقي،
بلا كفنٍ عارياً.
أتساءلُ
والموتُ يدنو،
ويقتربُ الحَبْلُ منْ عُنُقي..
أيَّ جُرْمٍ أتيتُ؟
المخاوفُ تنهشُ في رئتي،
وغداً يُسْلِمُوني إلى الموتِ،
أهوى (زبيدَ) ، وأعبدُها،
أتعشَّقُ في الشمسِ إشراقَها،
وأعانقُ لونَ الجبينِ المقاتلِ،
والبَسَماتِ الأسيرةْ.

(ساعةُ البرجِ تعلنُ منتصفَ اللَّيلِ.. في ركضِهِ الدّاخلي لم يزلْ ثابتاً جزعاً، يجذبُ الرأسَ منْ قبضةِ الحزنِ والخوفِ، يطلقُ عينيهِ عبرَ حديدِ الزَّنازنِ نحوَ المقَطَّمْ).

(المقَطَّمُ) تعويذتي،
عندَ أقدامِهِ
تتمدَّدُ سيّدةُ الشرقِ / قاهرتي
قَدَماها على النِّيلِ،
والشعراءُ الرِّفاقُ يغنُّونَ حزني لها،
وَهْيَ فاتنةُ القلبِ والعينِ..
كيفَ أموتُ على صدرِها خائناً،
يشطرُ السيفُ بينَهما - بينَ قلبي وعيني -
يظلُّ دمي يتساءلُ عندَ الضُّحَى
والظلامِ:
لماذا تَغَرَّبْتُ عنْ وطني،
وهجرْتُ (زبيدَ) التي باعني أهْلُها؟
ألأني أخافُ منَ الموتِ؟
ها هوَ ذا يتعقَّبُني..
مَنْ مِنَ الموتِ ينقذُني،
يَنْزِعُ الحبلَ عنْ عُنُقي؟
السُّيوفُ - هناكَ - يمانيّةٌ
والأكُفُّ منَ الهندِ،
والأرضُ لا تزرعُ (النفطَ) في وطني
والجبالُ..
الجبالُ - هناكَ - رمادْ.

(المآذنُ لَمّا تزلْ تتنهَّدُ، في قبضةِ اللَّيلِ، تحتَ مخاوفِها تذكرُ اللهُ أكبرُ.. ، والقادةُ النّاعسونَ بظهرِ المدينةِ يستصرخونَ الجبالَ، وما زالَ في صمتِهِ جاثماً تحتَ جمرِ القيودِ يصلّي).

لكِ المجدُ..
لم يبقَ بيني
وبينَكِ إلاّ بقيّةُ ليلٍ
سترحلُ أشباحُهُ
نحوَ سردابِها الأزليِّ العميقِ،
التحيّاتُ - كلُّ التحيّاتِ - للناسِ
للأرضِ،
والطَّيِّباتُ لهمْ ولعينَيْ بلادي
لأحلامِها
لابتسامتِها،
ووداعاً
وداعاً (زبيدُ) التي في المنامِ
رأيتُكِ ضارعةً،
تتعذَّبُ عيناكِ في سجنِ جلاّدِها..
لنْ يطولَ الشَّتاتُ،
غداً نلتقي
حينَ تفترشُ الشمسُ مخدعَنا
وتمدُّ ضفائرَها فوقَ أشجارِنا،
حيثُ ينبتُ ريشُ الصقورِ
الذينَ غداً سيعيدونَ للوطنِ الحبَّ
والأمنَ..
إني على أملٍ أغمضُ العينَ
في اللَّحَظاتِ الأخيرةْ.

(الشوارعُ مذعورةٌ تتفاررُ، وجهُ المدينةِ ينهضُ منْ نومِهِ المتقطِّعِ، مشنقةٌ تتأرجحُ في غبشِ الفَجْرِ، في حبلِها الكلماتُ الذبيحةُ خابيةٌ تتدلَّى، العصافيرُ منْ خلفِها ترقبُ الشمسَ، حينَ تجيءُ سترحلُ فوقَ مراكبِها، وتشدُّ الرِّحالَ، بلا شِعْرٍ انْكَسَرَ القلبُ.. ها هيَ عائدةٌ لبراري زبيدْ).

([1]) ترك الشاعر (عمارة اليمني) بلاده اليمن فراراً من الحكم الفاسد، وجعل من مصر وطنه الثاني، وفي عام 1175م أعدم الشاعر شنقاً بتهمة
التحريض الشعري على قلب نظام الحكم
([2]) زبيد: من المدن التاريخية في اليمن، كانت العاصمة السياسية لليمن في عصر (عمارة) وقد تلقى فيها علومه، ومارس شطراً من نشاطه الأدبي والسياسي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى