[esi views ttl="1"][esi views ttl="1"]

أشجان يمانيّة

الشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح - نشوان نيوز - أشجان يمانيّة

- 1 -
هل عرفتْ أعينُكُم في الأرصفةِ المهجورةِ
معنى الدَّمْعْ؟
في المنفى احترقَتْ عيني شَجَنا،
صارَ الدمعُ بعيني وطنا
شربَتْ عيني ماءَ الحزنِ
انفجرَتْ..
أينَ الضوءْ؟
شَبَحُ امرأةٍ ظلَّ ينادي وجهي
منْ خلفِ اللَّيلْ
حينَ خلعْتُ ثيابَ المنفى
غابَ القمرُ المشتاقْ
ضاع كتابُ العشّاقْ..
مهلاً يا قدمَيَّ الذّاويتينِ
الدَّرْبُ أفاعٍ
والرِّحْلَةُ زيفٌ.
التَّذكرةُ الأولى ثعبانْ
والتَّذكرةُ الأخرى تمساحٌ
فلتقرأ أقدامُ النَّهْرِ تذاكرَها،
ولنتوقَّفْ
حتى يتفجَّرَ ماءُ الفَجْرِ منَ الصخرةْ
ومنَ الجَمْعِ الحاشدِ يولدُ إنسانْ.

- 2 -
يتملَّكُني حزنُ كلِّ اليمانينَ
يفضحُني دمعُهم،
جُرْحُهم كلماتي
وصوتي استغاثاتُهم،
يتسوَّلُ في الطُّرقاتِ الصَّدَى
كلَّما قلتُ: إنَّ هواهم سيقتلُني
ركضَتْ نخلةُ الجوعِ في ليلِ منفايَ،
فانتفضَ العمرُ،
وارتعشتْ في الضُّلُوعِ دفوفُ الحنينِ
وبينَ عيونِ نخيلِ (الجنوبِ)
وكَرْمُ (الشَّمالِ)،
يقومُ كتابُ الهوى
تتدلَّى عناقيدُ بهجتِنا
يغضبُ الرَّمْلُ
ترتعشُ الكلماتُ
تحاصرُها شهوةُ الحقدِ
تمتدُّ حولي أصابعُها..
أيُّ قُضْبانِ سِجْنٍ هنا تَرْتَسِمْ؟

- 3 -
أمشي وراءَ صوتِهِ
يمشي وراءَ صوتي،
حيناً أصيرُ ظِلَّهُ
حيناً يصيرُ ظِلّي،
مَنْ هوَ هذا النّائمُ اليقظانْ؟
- الخوفُ عُرْسُ النارْ.
يخرجُ منْ رمادِ الأمسْ
ينسلُّ منْ رمالِ اليومْ
يرقصُ في جليدِ الغدْ.
- يا فَرَحَ الترابِ أينَ أنتْ؟
الخوفُ يرتدي دمي
يمضغُني، أمضغُهُ
نأكلُ بعضَنا
نشربُ بعضَنا.. متى سنفترقْ؟

- 4 -
عذَّبَتْني القطاراتُ
وَهْيَ تصافحُ وجهي مودِّعَةً
عذَّبتْني الشَّوارعُ خاليةً
ليسَ في الكُوْخِ إلاّ روائحُهم.
أيّها الشَّجَنُ (المأربيُّ) المعتَّقُ
هذا حِصاني
وَشِعْري
وَسَيْفِيَ بِعْني بهم ساعةً
منْ لقاءِ الشَّجَرْ.
يا عيونَ الطُّفولةِ
وجهي هنا يستحمُّ بدمعِ الشَّجَنْ..
هل بعيدٌ عنِ النَّخْلِ وجهُ اليَمَنْ؟
هل بعيدٌ أنا عنْ نخيلِ الهوى؟
هل بعيدٌ أنا عنْ زمانِ المطرْ؟
فَخُذوا لغتي
وكتابَ حياتي،
اهْبِطوا بي على صفحةِ الماءِ
نارُ الدُّمُوعِ تُذَوِّبُني
ودمي يتسوَّلُ وجهَ الرِّياحْ.

- 5 -
- إنّهُ موسمُ النومِ..
قالَ، وعيناهُ مفتوحتانِ
تفتِّشُ في قَعْرِ إحداهُما
عنْ بقيّةِ إغفاءَةٍ شاردَةْ:
- إنّهُ موسمُ الحزنِ.
قلتُ، وكانَ الصَّدَى، مثلَ زِنْجِيَّةٍ
يتلفَّتُ خلفي،
وكلُّ الممرّاتِ مغلقةً باردَةْ:
خنجرُ الأرقِ المتوهِّجِ في صدرِهِ
يكتبُ الجُرْحَ.
مالَ جبينُ النَّهارِ
بَدَتْ آهةٌ في فمِ الشمسِ مكتوبةٌ،
- إنّهُ موسمُ الحزنِ،
صفراءُ في لونِ آهاتِنا شَجَراتُ الحقولْ،
المقابرُ،
والعشبُ أصفرُ
أسودُ،
والملتقى.
- أيُّ فصلٍ منَ العامِ هذا الذي جاءَنا؟
- إنّهُ..
إنّهُ وجهُ كلِّ الفصولْ.
- 6 -
في العَتْمَةْ..
وطني وأنا نسهرُ
نشكو للرِّيْحْ..
نرسمُ وجهَ المنفى
نتساقَى أكوابَ الدَّمْعْ.
حينَ يغالبُني السُّكْرُ أراني وطني
وأراهُ أنا
مَنْ مِنّا الوَطَنُ / المنفى؟
مَنْ مِنّا الجُرْحْ؟!
يا نارَ الماءِ اقْتَرِبي..
مُدِّي ظِلَّكِ فوقَ عظامي
فوقَ عظامِ الوطنِ / المنفى،
فوقَ الجِذْعِ المتفجِّرِ بالدَّمْعْ.

- 7 -
أسيرُ،
يسيرُ الطَّريقُ معي
ثمَّ أعدو ويسبقُني
قَدَماي تَسَمَّرَتا..
هل أنا حَجَرٌ في خطوطِ البدايةْ؟
مدينةُ عشقي تُنادي
ومنْ خلفِها تتدلَّى العناقيدُ،
كالبحرِ غامضةً تتبسَّمُ (مأربُ)..
سيّدتي ليسَ ذنبي،
تصالحَ - في قتليَ - النفطُ
والرَّمْلُ
هل تسمعينَ أنينَ حروفي
سآتيكِ يوماً.. سآتيكِ
يا لَلطَّريقِ.. أسيرُ عليهِ فيسبقُني
ثمَّ أعدو فيسبقُني،
هل أنا حَجَرٌ في خطوطِ البدايةْ؟

- 8 -
أوْرَقَتِ الكآبةْ.
تَجَذَّرَتْ فينا
تباركَتْ أغصانُها
تَحَدَّدَتْ في رئتي الأظافرُ الطريَّةْ،
صِرْتُ كَحَدِّ الماءْ
لا الصمتُ يشفيني
ولا الكتابةْ
ولا حدائقُ الوَرْدِ
ولا السَّحابةْ.
أطرقُ بابَ اللَّيلِ خاشعاً:
يا ليلُ،
أيّها الرَّحيمُ يا جِدارْ..
غَسَلْتَني منْ مَلَلِ النَّهارْ،
غَسَلْتَ نفسي منْ جحيمِها
منْ شوقِها العقيمْ،
غَسَلْتَ عينيَّ منَ الضَّوءِ السَّديمْ
وَشَفَتيَّ منْ تحيُّرِ السُّؤالْ.

- 9 -
قالَ لي منْ رأى:
إنَّ صنعاءَ جائعةٌ
والمآذنَ عاريةٌ تتسوَّلُ،
(عَيْبانَ) يحملُ أطفالَهُ
وتوابيتَ موتاهُ،
ثمَّ يهاجرُ..
أينَ الطريقُ إلى الماءِ؟
عَذَّبَني عطشُ النهرِ
عَذَّبَني عطشُ البحرِ،
كلُّ مكانٍ على الأرضِ بيتٌ
سوى مَنْزلي،
كلُّهم يحملونَ دفاترَهم
يحملونَ جماجِمَهم لِلْمَنافي.
رَحِمُ الأرضِ جَفَّ
الحصى، رَحِمُ الزَّمنِ المتفجِّرِ
جفَّ،
خُطايَ تحدِّقُ في بعضِها،
والطَّريقُ العَباءةْ.

القاهرة، سبتمبر 1977م

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى