[esi views ttl="1"][esi views ttl="1"]

قراءة في أوراق الجسد العائد من الموت

الشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح - نشوان نيوز - قراءة في أوراق الجسد العائد من الموت

- 1 -
إذا زلزلَتْ…
وبكى جسدُ الأرضِ
- أيتها النخلةُ اليمنيّةُ،
يا امرأةَ البُنِّ:
كيفَ يباغتُكِ الأصفرُ / الموتُ
والأسودُ / الحزنُ؟
كيفَ تصيرينَ لحداً
وينكسرُ الظِّلُّ في الخنجرِ المأربي؟
أيها المقبضُ المتبقِّي منَ السيفِ
لا تكشفِ السِّرَّ
ما زالَ في الجسدِِ امرأةٌ
ونخيلٌ،
وما زالتِ الأمُّ (عشتارُ) تشرقُ
في آخرِ اللَّيلِ
والطفلُ يرسمُ في صدرِهِ وَجْهَ مُهْرٍ
منَ النارِ
يخرجُ منْ حَجَرٍ أورقَ الموتُ في جفنِهِ،
ثمَّ ينهضُ مرتبكاً
ويفتّشُ عنْ قمرٍ لا فضاءَ له
ويروِّضُ أجنحةً منْ رمادِ الحطامْ.

(جيبوتي - محطَّةُ الأرصادِ الأولى:
سَجَّلَتْ مراصدُنا، عندَ الظهيرةِ، زلزالاً عنيفاً، بلغتْ قوَّتُهُ سبعَ درجاتٍ، بمقياسِ ريخترْ..
ربما يكونُ قد ضربَ أجزاءً منَ المنطقةِ الوسطى، في اليمنِ..
بعدَ الولادةِ
يغفو الزمنُ في أحضانِ الموتْ).

- 2 -
هبطَ اللَّيلُ عندَ الظهيرةِ
واحترقَ الشجرُ القرويُّ بماءِ الظهيرةِ،
فارتعشتْ في عيونِ الصَّبايا الجِرارُ
هوى النبعُ،
غاضَ حديثُ الصَّبايا
استحالَ نداءُ الخلاخيلِ دمعاً
أسالَ دمَ العشبِ
والماعزُ اصطادَهُ لهبٌ لا يُرى..
هل أتى الموتُ مختفياً في ثيابِ
الظهيرةِ؟
هل... ؟
وبكى جسدُ الأرضِ
واختلطتْ ببقايا المرايا عيونٌ مشقَّقَةٌ،
وشتاءْ.

(ضورانُ - الجامعُ الكبيرُ..
إمامُ الجامعِ ينهضُ منَ السجودِ الأوَّلِ،
ثمَّ يقرأُ: {القارعةُ ما القارعةُ. وما أدراكَ ما
القارعةُ، يومَ يكونُ الناسُ كالفَراشِ
المبثوثِ، وتكونُ الجبالُ كالعِهْنِ المنفوشْ}..
صوتُ الإمامُ يتصدَّعُ، جدارُ القِبْلَةِ يتصدَّعُ،
تتوارى آيةُ الكرسي عنِ الأنظارِ،
يسقطُ السَّقْفُ
ويسجدُ المصلَّونَ قبلَ أداءِ الرُّكوعِ،
وتذهبُ بيوتُ المدينةِ لأداءِ صلاةِ الموتْ).

- 3 -
للإلهِ صلاةٌ على شجرِ البُنِّ
يرحلُ محترقاً،
للنبيِّ صلاةٌ على مسجدٍ
كانَ يعشقُ لونَ الأذانِ،
يضيءُ إذا ما أتى اللَّيلُ بالكلماتِ.
وللشَّعْرِ أسئلةٌ
وصلاةٌ،
وللعشقِ،
للطائرِ المتداعي قصائدُ كالجمرِ
أغنيةٌ منْ غبارٍ تدلَّى،
ارتدى لهباً ودخاناً
تبلَّلَ بالدَّمِ صوتُ السَّواحلِ
والشجرُ الخائفُ استرجعَ الآنَ أكتافَهُ..
إنّهُ الصخرُ،
يحملُ نَعْشَ القُرَى في ضفائرِهِ
ويسيرُ بطيئاً.. بطيئاً
إلى المقبرةْ.

(ضوران - المدرسةُ الابتدائيَةُ..
يخرجُ ثعبانٌ أسودُ منْ جدارِ المدرسةِ..
يقفزُ فوقَ الكراريسِ الملوَّنَةِ..
يجري نحوَ البابِ هارباً،
يركضُ التلاميذُ خلفَهُ مسرعينَ..
عندَما يلتفتونَ وراءَهم يجدونَ المدرسةَ قد اختفتْ،
ولا أثرَ للكراريسِ ولا لمنْ تبقّى منْ زملائِهم..
بقعٌ منَ الدَّمِ، تأوُّهٌ مذبوحٌ،
أصابعُ تصرخُ، أنفاسٌ تعاتبُ الأفقْ…).

- 4 -
منْ رأى شجراً ميّتاً
وبيوتاً تموتُ
ومنْ أبصرَتْ عينُهُ جبلاً راكعاً
وتلالاً تداعبُ في بهجةِ الموتِ أطفالَها؟
منْ رأى الوردَ يَنْزفُ
والجُلَّنارَ يُحَاصَرُ؟.
إني رأيتُ الدموعَ الترابيّةَ اللَّونِ،
تأخذُ شكلَ الندى في وجوهِ الحجارةِ،
إني رأيتُ النوافذَ تبكي
شهدتُ الطُّلُولَ الدَّوارسَ
تخرجُ منْ عتباتِ القصورْ.

(ذهبتِ المرأةُ العجوزُ إلى الحقلِ القريبِ
لتحصدَ أعواداً منَ البرسيمِ، تطعمُ بِهِ ناقتَها الوحيدةَ..
عندَما رجعتْ إلى القريةِ
كانَ البيتُ واقفاً أمامَها، فجأةً لم تعدْ تراهُ..
رأسُ النّاقةِ فقطْ، كانَ يطلُّ منْ بينِ الأحجارِ..
اللِّسانُ يتدلَّى في استرخاءٍ،
والعينانِ مسكونتانِ ببريقِ الحنينِ
إلى البرسيمِ الأخضرِ..
يصيرُ الشوقُ لُعاباً،
والحلمُ نعشا).

- 5 -
يتشقَّقُ وجهُ القُرَى
يتشقَّقُ وجهي،
وصوتيَ
والجبلُ ال-سنانويبنهايةسطركانَ ذاكرةَ البُنِّ والشمسِ
ذاكرةً تحتسي خمرَ أوجاعِنا،
يتشقَّقُ وجهُ القصيدةِ
وجهُ الظهيرةِ
يخرجُ نعشٌ،
وتسترجعُ الأرضُ أشياءَها
وحجارتَها،
يركضُ الشجرُ القرويُّ
وتأخذُهُ نوبةٌ منْ نشيجٍ،
يوشوشُني:
- حينَ كانَ الصَّباحُ يداعبُ أجفانَ نافذةٍ
ويغنّي مفاتنَها
لم يكنْ يقرأُ الشَّرْخَ في جَفْنِها
يتأمَّلُ وجهَ النهارِ الذي عادَ مكتئباً،
والعناكبَ تقرأُ صوتَ الغرابِ
وتصرخُ في صمتِها:
يا لَهُ منْ خرابٍ!
وتبكي الحجارةُ تاريخَها
وزمانَ الوصالْ.

(حلَّقَتْ طائرةٌ في لونِ الصَّحْراءِ فوقَ سماءِ العاصمةِ،
هبطتْ إلى أرضِ المطارِ في خوفٍ..
بعدَ قليلٍ نزلَ منها عددٌ كبيرٌ منَ المصوِّرينَ والصحفيِّينَ.
طائراتٌ أخرى تحلِّقُ ثمَّ تهبطُ في حَذَرٍ؛
حاملةً أطناناً منَ الأكفانِ،
وكميّاتٍ كبيرةً منَ الأحزمةِ المختلفةِ المقاييسِ والأحجامِ،
منَ النوعِ الذي يستخدمُهُ الجياعُ عندَ الحاجةْ!).

- 6 -
القصائدُ غرقى،
وطافيةٌ فوقَ رملِ الجنوبِ
الشِّعاراتُ،
طافيةٌ في نهارِ الشَّمالِ المواسمُ
يا جبلَ (الشَّرْقِ)
كيفَ حملناكَ للقبرِ؟
كيفَ حملْنا إليهِ نوافذَ معشوقةِ القلبِ؟
منْ أينَ ينهمرُ اللَّمَعانُ إذا ما أتى الصيفُ
واشتعلَتْ بالأغاني الحقولُ؟
ومنْ أيِّ ساقيةٍ ستجيءُ الرِّياحُ
محمَّلَةً بأريجِ الصَّبايا
وهمسِ الهوى؟
مشتهاةً تكونُ الطريقُ إلى ظلِّ عينيكِ
يا طفلةَ البُنِّ..
رائحةُ الأرضِ،
ثقبٌ منَ الماءِ يحملُني
صوبَ أغنيةٍ لا تنامُ
ولا تستقرُّ عليها نهودُ الجبالْ.

(رجلٌ في الخمسينَ، شاردٌ بينَ الحقولِ، يتحدَّثُ إلى نفسِهِ:
لماذا بقيتُ أنا؟ كلُّهم ذهبوا.. أطفالي، زوجتي / مرآةُ عمري.
ينظرُ إلى الجرحِ الغائرِ في ساقِهِ اليمنى، ويصرخُ:
لماذا يريدونَ إبراءَ جراحي الخارجيّةِ،
ويحاولونَ مسحَ بقعِ الدَّمِ منْ عينيَّ؟
أيّها الأطبّاءُ دعوا لي هذا الجرحَ؛
إنّهُ الخيطُ الذي يربطُ بيني وبينَ القبرِ، يَصِلُني برائحةِ الأحبابْ).

كيفَ أهربُ منْ خوفِ عينيكِ
منْ حزنِ عينيكِ،
منْ وجعٍ في الترابِ الذي كانَ بيتي
ونافذتي،
كانَ بوّابةَ العشقِ والاخضرارِ
ونافورةً تستحمُّ العصافيرُ في ضوئِها
والفَراشاتُ؟
أينَ.. إلى أينَ أذهبُ
يا الجسدُ العربيُّ الذي كانَ
يا الحرفُ،
يا التعبُ المرتخي فوقَ جفنِ المرايا
وجفنِ العذارى؟
لماذا انطوى وعدُكِ البِكْرُ قبلَ الأوانِ،
وفاجأَنا الرَّقْصُ؟
هل ترقصينَ اختياراً؟
وهل تكرهينَ الرَّتابةَ؟:
ضورانُ.. إني أناديكِ
هل تسمعينَ بكائي؟
أأحفرُهُ فوقَ صدرِ الترابِ الذي ماتَ؟
كيفَ أعلِّلُ بالصبرِ قلبَ الجدارِ
وأنقشُ حزنَ العصورِ على قبرِكِ المتألِّمِ؟
كيفَ أقولُ لصنعاءَ؟
كيفَ أخاطبُ أحزانَها؟
هل أقولُ اختفتْ طفلةُ البُنِّ،
واحترقَتْ؟
هل أقولُ انتهتْ؟
يا لَحُزْني عليكِ
وحزني علينا!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى