[esi views ttl="1"][esi views ttl="1"]

إيقاع الظهيرة

الشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح - نشوان نيوز - إيقاع الظهيرة

كيفَ يصيرُ الحُلْمُ سيفاً
وتصيرينَ احتمالاً في نهارِ الأرضِ
والزَّمَنْ.
يا مصرُ..
يا مَوّالَنا الجميلَ،
يا براءةَ التَّكْوينِ في خريطةِ الشَّجَنْ.
اليومَ تولدينَ مَرَّةً أخرى
وتخرجينَ منْ سلاسلِ الأحزانِ،
تخرجينَ منْ زنزانةِ الوَهَنْ.

ظُهْراً كانَ الوَقْتْ.
هذا اليومُ انتظرتْهُ الشَّمْسُ طويلاً
وانتظرتْهُ الأرضُ طويلاً
كانَ التاريخُ عجوزاً يتمدَّدُ فوقَ سكونِ الأهرامِ
ومنديلاً يمسحُ دمعَ (أبو الهولِ)
ووجهَ النِّيْلْ
عيناهُ مُسَمَّرَتانِ على ميدانٍ شرقيِّ (الفُسْطاطِ)
حيثُ (الفرعونُ) البائسُ،
آخِرُ أسباطِ (مُسَيْلَمَةِ) الكَذّابِ،
يَخُطُّ عظامَ الكلماتِ
ويقرأُ آخرَ سِفْرٍ في تلمودِ العهدِ المفتوحْ:
(إنّا أنزلناهُ على الحُكّامِ،
وأنزلنا معَهُ الدُّولارَ
وأعطينا إسرائيلَ ضفافَ النِّيْلِ
وماءَ فلسطينْ.
لا خَوْفَ منَ الجوعِ،
ولا منْ ديدانِ العُنْفْ
فئراناً صارَ الشَّعْبُ
وصارَ الجندُ أرانبَ،
مِصْرُ المبْغَى والمبْكَى،
مِصْرُ الجِسْرَ إلى عَرَبِ النِّفْطْ
إنّا أنزلناهُ وفرعونُ الحافظْ!).

فوقَ عقاربِ السّاعةِ
يجلسُ الزَّمانُ ناشراً أضلاعَهُ،
يسألُ عنْ معنىً لما يجري،
ويرفضُ الهجرةَ عنْ ذاكرةِ الوطنْ.
وجهُ الحروفِ مصلوبٌ،
ويغتالُ الشِّتاءُ لونَ البحرِ،
(والصيفُ بلا لَبَنْ).
وأنتِ يا مِصْرُ بلا ظِلٍّ
بلا شمسٍ،
ووجهُكِ الشّاحبُ في انتظارِ (إيزيسَ)،
وفي انتظارِ (ذي يَزَنْ).

هل أرسمُ نَعْشاً أمْ عَرْشاً؟
هل أرسمُ رملاً أمْ نهراً؟
كانَ نحيبُ الأهرامِ يطاردُني
ونحيبُ النَّهْرِ يطاردُ كلَّ الأشجارِ،
ويزرعُ في الطُّرقاتِ الخوفَ
وفي الأفواهِ الصَّمْتَ
وفي الأحداقِ الموتَ،
وكانتْ مِصْرُ امرأةً أدركَها مرضُ (التَّطْبِيْعِ)..
(التطبيعُ: جذامٌ يتهدَّدُ أوصالَ المحبوبةِ
يقشُرُ وجهَ عروبتِها).
كانَ نهارٌ طفلٌ
يتحسَّسُ أعضاءَ حبيبتِهِ،
ويصيحْ:
يا مصرُ نريدُكِ خبزاً
وكتاباً
ونريدُكِ صوتاً مفتوحاً كالنَّهْرِ،
ونهراً يعبرُ بالصَّحْراءِ
منَ الرَّمْلِ إلى الماءِ
ومنْ مروحةِ النّارِ
إلى مروحةِ العُشْبْ.

كنتِ لنا أُمّاً
وكنتِ مَنْزِلاً يا مِصْرُ
كانَ صدرُكِ الكتابَ
والرَّغيفَ،
كانَ الرَّغْبَةَ الخضراءَ..
كيفَ جَفَّ؟
كيفَ اغتالَهُ زمانُ الجَدْبِ والدَّرَنْ؟
لكنّهُ يعودُ منْ منتصفِ الطريقِ
بينَ القبرِ والمطرْ.
يخرجُ منْ دمِ النَّخيلِ،
منْ دمِ التّاريخِ رائعَ البَدَنْ.
تنهمرُ الأمطارُ ناراً،
واقفٌ هوَ الزَّمانُ،
الأرضُ لا تدورُ
الشمسُ لا تجري،
وكانَ الوقتُ ما يزالُ ظُهْراً،
وعلى منتصفِ الطريقِ بينَ الجَمْرِ والندى
يسقطُ وجهٌ طافحٌ بالعارِ والعَفَنْ.

ظُهْراً كانَ الوَقْتْ.
هذا اليومُ انتظرتْهُ الشمسُ طويلاً
وانتظرتْهُ الأرضُ طويلاً
صارَ التاريخُ فتىً في عشرينيّاتِ العمرِ
يداعبُ بينَ يديهِ (عروسَ العَرَباتِ)
وَقُرْصَ الشَّمْسْ.
(إيزيسُ) تُعِدُّ الميدانَ
لِعُرْسٍ شرقيِّ الأنفاسِ
لِنَصْرٍ لم تشهدْ مِصْرُ
ولا عينُ الشَّرْقِ له نِدّاً..
يترجَّلُ خمسةُ فُرْسانٍ في عمرِ ورودِ (الدِّلْتا)..
ضَحِكَ النِّيْلُ رصاصاً،
و (الضِّفَّةُ) غَنَّتْ شجراً.
هذا وقتٌ للموتِ وللميلادْ.
وقتٌ يذهبُ فيهِ القبرُ إلى القبرِ
وتذهبُ فيهِ المدنُ القَتْلَى للرَّقْصْ:
(إنّا أنزلناهُ في يومٍ
يخرجُ فيهِ الوطنُ الخامدُ
كالجُثَّةِ منْ ثُقْبِ الكامْبْ،
يخرجُ فيهِ وجهُ (الهَرَمِ الأكبرِ)
منْ أحذيةِ الحاخامْ.
يخرجُ فيهِ (الوجهُ القِبْلي)
و (الوجهُ البَحْري)
منْ خارطةِ الرَّملِ،
ومنْ لونِ الزمنِ الأمريكي،
يخرجُ فيهِ صباحٌ عربيٌّ
كالمطرِ المغسولِ
كأعيادِ حصادِ القمحِ
كأعراسِ بحيراتِ الأحلامْ..
إنّا أنزلناهُ وَرُوْحُ الشَّعْبِ الحافظْ).

انتفضَ النهرُ
وفاضَ وجهُ مِصْرَ فرحاً،
أغمضَ جفنَهُ النِّيْلُ،
وأدركَ الضِّفافَ عارضٌ
منَ الوَسَنْ.
وانطلقَتْ سحابةٌ منْ صدرِهِ،
تطاردُ الجفافَ في قَرارةِ النَّهْرِ،
وفي شوارعِ الوَطَنْ.
وارتعشَتْ مِصْرُ
وكانتْ جُثَّةً
ترحلُ في أقصى مسافةٍ
منَ الكَفَنْ.

أكتوبر 1982

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى