[esi views ttl="1"][esi views ttl="1"]

مرثيّة عصريّة لمالك بن الرَّيب

الشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح - نشوان نيوز - مرثيّة عصريّة لمالك بن الرَّيب

أخرجوهْ
أخرجوني منَ القبرِ.. قالَ الفراتُ،
لعلّي أراهُ، يراني
وأقرأُ في وجهِهِ آخرَ الكلماتِ
ويقرأُ آخرَ حزني عليهْ:
إنّهُ النهرُ أمّا أنا فحروفٌ منَ الماءِ
أظمأُ إنْ هجرَتْني القصائدُ
تقرأُني في النهارِ الرِّياحُ
ويقرأُني في المساءِ البكاءْ.

(أعرفُ أنَّ البحرَ والصَّحْراءْ
منْ زمنٍ أعداءْ.
أعرفُ أنَّ النهرَ، عارياً،
والماءْ
يغسلُ عينيهِ منَ البكاءْ.
وأنَّ حرفاً لا ينادمُ الأغواتِ،
لا ينامُ في جناحِ الخادماتْ؛
يموتُ في المنفى،
يبكي كما تبكي المياهُ
في مواقدِ الشتاءْ).

قضى الرَّبُّ أنْ نتعذَّبَ بالشعرِ
نَبْتَلَّ في جمرِهِ
ونموتَ لنحيا،
قضى الرَّبُّ أنْ لا نموتَ
وأنْ نسكنَ الكلماتِ
وتسكُنَنا الكلماتُ،
تظلِّلُنا كلَّما احترقَ الماءُ
وانطفأَتْ في اللَّيالي نجومُ الظهيرةِ،
نشتاقُها كلَّما هجرَتْنا الدُّموعُ
وغامتْ على الأفُقِ الأسئلةْ.
(يا مَنْ يدلُّني على طريقِ الرَّجُلِ / الإنسانْ
الرَّجُلِ / المطرْ..
هذا طريقُ الجسدِ الأفعى
الجسدِ الحَجَرْ.
يا مَنْ يدلُّ خطوتي على طريقِ الوَطَنِ / القَمَرْ
الوَطَنِ / الشَّجَرْ..
يا مَنْ يدلُّني
يا مَنْ يدلُّني؟).

منذُ متى ودمي
يتنقَّلُ بينَ الخطى العاثراتِ
يفتِّشُ عنْ فارسٍ ضائعٍ في عيونِ العراقِ،
وعنْ فَرَسٍ تتذكَّرُ (وادي القُرَى)،
تتلمَّسُ في الرَّمْلِ سيفاً
وفي الماءِ مملكةً؟.
ومنذُ متى
وطريقُ (خراسانَ) لا يترجَّلُ
عنْ حقدِهِ
والنَّخيلُ تحدِّقُ في الأوجهِ الباكياتِ؟
أخافُ سماءَ الشتاءِ،
وأكرهُ أنْ تبردَ الخيلُ،
يزدادَ صوتُ الحروفِ انطفاءً
وصمتاً،
ويكبرَ صوتُ العَطَشْ.

(خذني إلى بغدادْ
إنَّ دمي يطوفُ في المسالكِ الخضراءْ،
يموتُ في رائحةِ الفراتِ / الأمِّ،
يعشقُ النَّعْناعَ منْ ضفافِهِ
ويعشقُ المرايا
يضحكُ للظِّلالِ / القَمْحِ
يبكي للمقاهي،
حينَ يرحلُ النهرُ ويسقطُ الحَمامْ).

قليلاً منَ الصمتِ
هذي الجنازةُ قادمةٌ
والزَّغاريدُ تعلو
ومقبرةٌ تخلعُ الرِّيْشَ عنْ صدرِها،
وتقولُ: ادفنوهُ هناكَ بأفقِ البراءةِ
لا تطرحوهُ على الأرضِ،
لا تطرحوهُ..
القصائدُ تأخذُ شكلَ الجنازةِ
تأخذُ شكلَ الرَّصاصةِ،
شكلَ المصابيحِ
شكلَ الحرائقِ،
والموتُ يأخذُ شكلَ البلادْ.

(يا شِعْرُ، غابةً منَ الرَّصاصِ
صارَ وجهُ الأرضِ
صارَ وجهُ العشقِ،
أوَّلُ الحُلْمِ انتهى
وآخرُ الحُلْمِ انتهى،
يأتي السؤالُ ساخناً
ويخلعُ الصمتُ حذاءَهُ
يا أيّها الصمتُ ارْتَعِشْ
وحاولِ الخروجَ منْ مدينةِ الطَّحالبْ).

اخْرُجي منْ دمائي
لعلَّ نخيلَ الفراتِ،
وأسماكَ دجلةَ تذكُرُني..
أنا منْ طينِها العربيِّ،
ومنْ مائِها العربيِّ خرجْتُ إلى الشمسِ
أمسكْتُ مروحةً منْ حقولِ الشآمِ،
وسافرْتُ خلفَ رماحِ القبائلِ
أحْسَبُها رايةً.
يا لَحُزْنِ العراقِ
وحزنِ الشآمِ
المراوحُ تكثرُ في الشّاطئينِ
وتدخلُ كلَّ الجهاتِ
وعيناهُ ما احتضنَتْ غيرَ صمتِ الفضاءِ الأليمْ.

(جارحةٌ كالصمتِ هذه اللُّغاتْ
لا تستقيمُ.. لا تقولُ شيئاً صادقاً،
تنبتُ في فمي،
تنبتُ في أفواهِكم كظِلِّ القاتْ.
كلُّ الرُّؤى غامضةٌ كقبرِ بابليونَ،
كانَ اللَّيلُ واقفاً
وكانَ صوتُ النهرِ باهتاً ومبلولاً:
جلجامشُ الأبلهُ يبكي
فوقَ قبرِ أنكيدو،
ومأربٌ يصيحُ: ماتَ..
ماتْ).

اليسارُ.. اليمينُ
اليمينُ.. اليسارُ
وكلبُ الحراسةِ منبطحٌ بالوصيدِ
وفي شفتي صخرةٌ تتمزَّقُ رُعْباً
ولا زادَ لي.
المدينةُ تهتفُ بي: أنْ تعالَ
النقوشُ منَ الكهفِ تهتفُ بي: أنْ تعالَ،
و (وادي القُرَى) عامرٌ بالمخاوفِ
أشجارُهُ خشبٌ يتهيُّأُ للذَّبْحِ،
صحراؤُهُ تتوغَّلُ في الخوفِ
تخرجُ منْ كَنَفِ الحقدِ،
مصبوغةً بنقاءِ الجراحْ.

(أراهُ خلفَ الكلماتِ متعباً
أراهُ مثلَ قلعةٍ تبعثرَتْ أحجارُها
أقرأُ في إغماضِ جفنيهِ براءةَ النُّسُورْ.
بغدادُ في عينيهِ
والمآذنُ العتيقَةْ
الشَّكُّ والحقيقَةْ،
ووجهُ غرناطةَ في شحوبِهِ
يطاردُ الجذورْ).

قميصُكَ هذا الذي ترتديهِ القصائدُ..
هل أتلفتْهُ الرَّصاصاتُ؟
هل مَزَّقَتْ خَدَّهُ؟
والزَّرائرُ هل فقدَتْ لونَها،
وتهشَّمَ عُنْقُ القصيدةِ؟،
ما أبعدَ البحرَ عنْ نخلةٍ
غَرَّبَتْها عصورٌ منَ اليأسِ
أزمنةٌ تتساقطُ موتاً
ورعباً،
ولا ترتدي غيرَ تاريخِ أحزانِها،
وقميصٍ منَ الدَّمْعِ
لا ترتدي غيرَ خوفِ الطريقْ.

(حينَ يجيءُ اللَّيلُ عارياً،
ينشرُ نفسَهُ فوقَ شوارعِ المدينةْ
يملأُ وجهَ الرِّيْحْ.
ترتعشُ القناديلُ على نوافذِ المقهى
وتجهشُ القصيدةْ.
يمارسُ الحزنُ طقوسَهُ،
يخرجُ منْ جُثَّتِهِ الآتي
ويولدُ الذَّبيحْ).

أيّها الشّاعرُ العربيُّ
المسافرُ في خطواتِ القصيدةِ،
بينَ (خُراسانَ) في الشرقِ
ما بينَ (تَطْوانَ) في الغربِ؛
إنَّ الذِّئابَ تجوسُ خلالَ الدِّيارِ
وصوتُ القصيدةِ لا يؤنسُ الخائفينَ
فلا تترجَّلْ عنِ النعشِ
لا شيءَ أثمنُ منْ أنْ تموتَ الغيومُ
لتحيا،
ولا شيءَ..
لا شيءَ في صمتِ هذا الخرابْ.

(ارْتَجَفَ الشّارعُ ساعةً ونامْ
ارتجفَ النهرُ ونامْ
ارتجفَ الشِّعْرُ ونامْ
ارتجفَ المصلوبُ في صليبِهِ
وقامْ،
ارتجفَ الترابْ..
اغتسلَتْ أصابعُ النَّخيلِ في الضُّحَى
وقامْ).

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى