[esi views ttl="1"][esi views ttl="1"]

فصول من كتاب الموت

الشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح - نشوان نيوز - فصول من كتاب الموت

سلامٌ هوَ اللهُ
في البدءِ كانَ
وفي آخرِ البدءِ كانَ،
أفاضتْ أصابعُهُ المبدعاتُ على الأُفْقِ لوناً،
وصوَّرَتِ الكائناتِ كما نشتهي
في الفَراشاتِ تُشْرِقُ مِنْ زَبَدِ الضوءِ
في البحرِ لا يستقرُّ على نغمٍ
في المياهِ تُضيءُ.
سلامٌ هوَ اللهُ
أنداؤُهُ في المرايا التي تلدُ العُشْبَ
والسُّحُبَ الصاعداتِ،
وفي الشمسِ
هذا البهاءُ الذي يترقرقُ
في الرُّوحِ ضوءاً
وفي الأرضِ فاكهةً،
وسوى الموتِ لا يجمعُ اللَّهَ والناسَ
في شرفةٍ واحدةْ.

* * *
يا نشيدَ الأناشيدِ
في الكائناتِ الصديقةِ
أيّامُنا الآدميّةُ تَمْضي سدىً،
تتناثرُ صفراءَ باردةَ الرُّوحِ
داكنةً لا طريقَ تؤدّي إليهِ..
السلامُ على العمرِ لا شيءَ فيهِ
السلامُ على الأمّهاتِ يلدْنَ جيوشاً
منَ الخائفين،
المُخيفينَ،
يَخْرُجْنَ منْ زمنٍ كالرَّمادِ
إلى زمنٍ كالرَّمادِ،
وما بينَ نارِ الحريقِ
ونارِ الصقيعِ
جنائزُ هاربةٌ يتكرَّرُ فيها الذُّهولُ،
يفوحُ النهارُ برائحةِ الموتِ
ينفرطُ الوقتُ،
والأُفْقُ يسقطُ،
يغدو رصيفاً يطاردُهُ الحزنُ
والأتربةْ.
صاحبي ماتَ في اللَّيلِ
غادرَنا خلسةً،
وأخافُ،
أ
خ
ا
فُ
إذا ما أتى اللَّيلُ ألاّ أرى فضَّةَ الشمسِ
ثانيةً مثلَهُ،
أنْ يغادرَني صوتُ (فيروزَ) منكسراً
أنْ أرى الشِّعرَ يُغْمِضُ عينيهِ
يدخلُ منفرداً كفنَ اللَّيلِ
يحملُ في راحتيهِ بقايا النجومِ،
وما أودعتْ راحةُ الشمسِ
في زمنِ الحبرِ
منْ صَدَفٍ في الكلامِ.
وأشرقَتِ الرُّوحُ
وامتلأَ الجسدُ الوثنيُّ خيوطاً منَ الضوءِ
دبَّتْ بِهِ صحوةٌ
هل تراهُ
هناكَ على شاطئِ النهرِ منكفئاً
ووحيداً،
يفتِّشُ في العشبِ
عنْ حُلُمٍ أيقظَ الطِّينَ والماءَ
عنْ هاجسٍ مُبْهَمٍ
من بعيدٍ يغوصُ
ويطفو؟
كأنَّ يداً في حصى النهرِ تدنو بِهِ
ثمَّ تَنْأى،
كأنَّ رعاةً يجيئونَ منْ آخرِ اللَّيلِ
ثمَّ ينامونَ عندَ الضُّحى
يَتَهَجَّوْنَ أحزانَهُ..
يا لَقَسْوةِ أيّامِنا
بعدَ أنْ وَدَّعَتْ ماءَنا الشَّمسُ
واحتجزَ القبرُ أجسادَهم
وأناشيدَهمْ
ومضوا للمكانِ البعيدْ..

جُثثٌ طافياتٌ هيَ الذِّكرياتُ
على مدخلِ القلبِ
تنتظرُ الرّاحلينَ،
وتدخلُ أقبيةً
ثمَّ تدخلُ أخرى،
لماذا تحدِّقُ في النائمينَ بلا جسدٍ؟
إنهم هادئونَ.. هناكَ
ابتهالاتُهم لا تُحِسُّ بها الشمسُ
لا يدركُ اللَّيلُ فحوى الكلامِ
الذي يكتبونَ
الذي يقرؤونَ،
انتصاراتُهم لم يعدْ ما يبرِّرُها
وانكساراتُهم - وَهْيَ لم تندمِلْ بعدُ -
جفَّتْ كأحزانِهم.
نَمْ وحيداً
وخذْ خِنْجَراً منْ مساءِ الطريقِ
المخاتلِ
هاجِرْ إلى اللَّحْدِ
لا شيءَ في هذه الأرضِ
غيرُ رمادِ الحكاياتِ
لا شيءَ غيرُ غبارِ الغبارْ.

* * *
مِراراً
أحاولُ أنْ ألتقي صاحبي
في رحابِ الصَّفاءِ الذي وَافرتْهُ لنا
رحمةُ اللَّهِ،
نذكرُ أشجانَنا
وقصائدَنا البائداتِ
ونرسمُ أقنعةَ الأصدقاءِ
الذينَ أحبُّوا (مقايلَنا)،
والذينَ أحاطوا - بمستنقعاتٍ منَ الكُرْهِ -
أيّامَنا..
ليتَ طائرَهم
يدركُ الآنَ أنَّ الذي كانَ ما بينَنا
منْ هوىً غاضبٍ ماتَ،
وانطفأتْ ريحُهُ
لم يعدْ منهُ إلاّ سرابٌ حزينٌ
يُلَوِّحُ في خندقِ الذِّكرياتْ.

* * *
على دَرَجِ (الأربعينَ)
تكسَّرَ قلبي
ودبَّ المشيبُ إلى الوقتِ..
لو كانَ للعمرِ
أنْ يستعيدَ صداقَتَهُ للزَّمانِ
وللأغنياتِ التي خرجتْ
منْ ثيابِ الحقولِ
كموجٍ منَ الضوءِ لا ينتهي.
ما الذي سوفَ يبقَى على الأرضِ يا صاحبي
حينَ يقتربُ الموتُ؟
كم سنةً سوفَ تبقَى لها
بعدَ أنْ أثقلَتْها المواجعُ،
غادرَها العشبُ
والأصدقاءُ،
وأفسدَ وحشتَها ركضُ أنفاسِنا؟
وَحْدَهُ الحقدُ يبقَى..
وترحلُ خائفةً حكمةُ الأنبياءِ،
إلى أينَ نمضي
إذا ما دنا الموتُ
يحملُنا فَجْرُهُ نحوَ ليلِ المقابرِ؟
مَنْ سوفَ يغسلُ أقدامَنا
مِنْ ترابِ الحنينِ إلى الأرضِ؟
مَنْ سوفَ يقرأُ ما يكتبُ الملَكانِ المضيئانِ
عنْ وحشةِ القبرِ،
تلكَ التي وَسِعَتْ كلَّ آثامِنا
وعذاباتِنا؟
والتي سوفَ تغسلُنا بشعاعِ الطفولةِ
تجعلُ أكبادَنا خصلةً مِنْ نهارٍ بهيّ،
وندخلُ برزخَ أوجاعِنا
شاهرينَ القصائدَ في ندمٍ عبقريّ.

* * *
أتذكُرُ،
لا أتذكّرُ ساعةَ تاهتْ بنا
في أزِقَّةِ (صنعاءَ) أغنيةٌ
تجرحُ القلبَ،
أكثرَنا ولهاً كنتَ تَفْتَحُ قلبَكَ للحبِّ
للأعينِ الفاتناتِ،
ويوجعُكَ الصمتُ..
لا أتَذَكَّرُ،
أسترجعُ الآنَ صوتَكَ
ضوءَ الحروفِ
وغيمَ المعاني
ووجهَ جدارٍ تَنِزُّ الأناشيدُ منْ جرحِهِ.
هل تغنّي الحجارةُ؟
كم زمناً يا صديقي مضى
والأغانيُّ مأسورةٌ في الحجارةِ،
ساكنةٌ خلفَ خيطِ الشبابيكِ
في شُرفةٍ ترتخي في الفضاءِ الفسيحِ؟
فلا تشتكي أو تئنُّ
ولكنْ تغنّي
ويهطلُ صوتُ الذين مضوا
ذابلاً تارةً
زاهياً تارةً،
كالشَّظايا الشوارعُ
تأخذُ منْ دمِنا وقتَها
وتغادرُنا لتنامْ.

* * *
وَحْدَكَ الآنَ،
والقبرُ
والذِّكرياتُ
وأسئلةٌ تتوكَّأُ عكّازةَ القلبِ..
هل فاتنٌ ورشيقٌ هوَ الموتُ؟
يشبهُ مَنْ مِنْ رفاقِ الصِّبا؟
هل يُغَنّي؟
وهل يقرأُ الشّعرَ؟
أذكرُ أنّكَ صادقْتَهُ - أقصدُ الموتَ -
أعطيْتَهُ صورةً تَتحدَّى البقاءَ
وأنّكَ خاتلْتَهُ مَرَّةً،
مرَّتينِ،
وأنّكَ يَمَّمْتَ شطرَ مدينتِهِ صارخاً:
سيّدي مرحباً بِكَ
يا آخِرَ الكائناتِ الجميلةْ.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى