[esi views ttl="1"]
دراسات وبحوث

وقفات في مسيرة الثورات

لقد تفاوتت نظرات المراقبين ومواقف الحاكمين من الثورات العربية واختلفت رواهم لها , وتباينت أحكامهم عليها, سواء أكانوا علماء أم مفكرين أم سياسيين أم من دونهم من طبقات المجتمع!

وبناء على ذلك تعددت التوصيفات لهذا الحدث الكبير, والوضع المثير الذي تمر به الأمة اليوم , فمن واصف لما يجري اليوم بأنه فتنة حزبية, وآخر بأنه أزمة سياسية ,وآخر بأنه ثورة تغيرية, وآخر بأنه نازلة عصرية , وغير ذلك من الألقاب المختلفة .

وبعيدا عن هذا المعترك السياسي والتوصيف اللفظي, أسهم في هذا المضمار بهذه الرؤية المتواضعة, بحسب فهمي وحدود علمي , سائلا الله تع إلى التسديد والعون في القول والعمل , واجتناب الخطل والزلل, فأقول : إن نظرتي لما يحدث اليوم في واقع الأمة العربية بعامة , وفي ساحتنا اليمنية بخاصة ,أن الأمة تمر بمخاض صعب, ولكنه مؤذن إن شاء الله بميلاد فجر جديد ومنعطف جوهري كبير, ومستقبل مشرق, للأمة,لا تنفرد بصناعته طائفة من الطوائف ,ولا جماعة من الجماعات ,ولا حزب من الأحزاب , بل يشترك في صناعته كل أطياف المجتمع برهم وفا جرهم وكبيرهم وصغيرهم وذكرهم وأنثاهم على حد سواء! فهو تغيير كوني عام وقدر رباني هام, لم يأت على مراد الساسة وصناع القرار, ولا على مراد الأحزاب والطوائف, بل ولا حتى على مراد الجماعات الإسلامية التغيرية, ولا الدعاة والعلماء أيضا!

إنه حدث مختلف تماماً عن كل الأحداث والتوقعات والمتغيرات الدولية, بل أظنه أهم حدث في القرن الحالي! له ما بعده, ولكونه جاء خلاف كل التوقعات , عبرت عنه الأنظمة الحاكمة المنقلب عليها, بأنه مؤامرة خارجية حاكتها يد الأعداء بتنفيذ الشعوب! وربما تابعهم على هذا الزعم جماعة من الدعاة وبعض أنصاف المتعلمين والعامة !

وقد غاب عن إدراك هؤلاء جميعا أن الأعداء مهما كان مكرهم عظيما, وخطرهم جسيما, فإنهم أقل وأصغر بل وأحقر من أن يصنعوا هذه اليقظة الشعوبية التي أقضت مضاجع العالم وأطاحت وتطيح بهذه الأنظمة المستبدة !التي صنع الكثير منها على عين هؤلاء الأعداء , وكانت العين الساهرة والحارس الأمين لمصالحهم قبل مصالح شعوبهم وحقوق أمتهم !.

وكيف يتصور أن يصنع الأعداء هذه الثورة التي غيرت بحق كل أوراق اللعبة السياسية كالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة والتلاعب بتغيب إرادة الشعوب وسرقة أصواتها وجثم العملاء على صدورها لإجهاض مشاريعها النهضوية , وخنق كل نفس تشتم من خلاله الأمة أدنى نفس للحرية ؟!!

إن العقلاء يدركون تماما بعد هذا التصور ومجافاته للحقيقة! فالأعداء وإن خططوا لأحداث الأزمات في الأمة وكانوا في الغالب خلف كل فساد فيها, أو قيل عن دراساتهم التوقعية لذلك , أو استثمروا بعض نتائج هذه الثورات وحاولوا الالتفاف عليها أو استغلالها, إلا أن الحدث أكبر وأعظم من قدرات البشر وتوقعاتهم , فالأعداء يدركون جيدا تنامي المد الإسلامي وازدياد أبتاعه وأنصاره في كل مكان, ويدركون أيضا مدى سماع الأمة لهذا الصوت وتأثرها به, وكره الشعوب لأنظمتها المصطنعة بسبب عمالتها لأولئك الأعداء, الذين لن تكون مصالحهم أمنة ولا مخططاتهم نافذة في حال تمردت هذه الشعوب على حكامها واستعادت حريتها وانتصار إرادتها, فهي في الأول والأخير شعوب مسلمة أبية ولن ترضى الدنية مهما صبرت على مرارة التسلط والاستبداد! فكيف يقول مدرك للواقع بأن هذه الثورات العارمة من صنع الأعداء وأنهم وراء هذا التغيير الكوني الكبير؟!

ورغم سقوط وتهاوي دعاوي المؤامرة الخارجية التي درج عليها الحكام وأقطاب أنظمتهم الفاسدة ,

إلا أنها انطلت للأسف على فريق من الدعاة وبعض طلاب العلم وأتباعهم من العامة نظرا لما تمثله عقدة المؤامرة من الحساسية المفرطة عندهم, وبناء على ذلك الوهم ذهب هذا الفريق إلى اتخاذ مواقف من هذه الثورات أقل ما يقال عنها : إنها مواقف عدائية للشعوب المسحوقة , وانحيازية في المقابل إلى صف الحكام والأنظمة الفاسدة وإن لم يرد أصحابها أن يكونوا كذلك !

وقد صار من المتعذر على عامة الناس فهم الفرق الواضح, بين عداء هؤلاء للظلم والفساد ,مع انحياز موقفهم إلى جانب صناعه وأربابه من الظلمة المفسدين! وبين ما يجب عليهم فعله من نصرة المظلومين والوقوف في وجه الظالمين ومجاهدتهم في الحق وقسرهم عليه قسرا وأطرهم عليه أطرا!

كما جانبهم الصواب في فهم وتوجيه محفوظا تهم من الأدلة الصحيحة الواردة في طاعة ولاة الأمور وعدم الخروج عليهم أو منازعتهم , وبين إنزالها على حال وواقع هؤلاء الحكام!, وكان لهؤلاء الدعاة عذرهم في فيما وصل إليه فهمهم لهذه النصوص لو تجردوا من عداوة الفريق الأخر وتسفيه رأيه, وجعلوا المسألة في دائرة الاجتهاد الجائز , دون أن يتجاوزوا إلى جعلها من مسائل الإجماع القطعية التي يضلل ويبدع من خالفها أو خرج عنها!

وكان الواجب أن يسع هؤلاء ما وسع السلف في هذه المسألة ومنهم الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم ممن رأوا جواز الخروج على الظلمة, وإن استقر قول الجمهور من أهل السنة مؤخرا على ترجيح مفسدة الخروج عليهم على المصلحة المرجوة للأمة, ومنعوا من ذلك , ولكن فات هؤلاء المتأخرين النظرة الفاحصة والمدركة للواقع وهو الركن الغائب هنا والذي تنزل عليه النصوص وهو ما يسمى عند الفقهاء بفقه تحقيق المناط , وعدم تصورهم الصحيح لحقيقة ما هو واقع وإليك بيانه ذلك :

1. لا ينطبق على هذه الثورات الشعوبية أي وصف من أوصاف الخارجين ولا يندرجون تحت أي قسم من الأقسام الثلاثة التي بينها أهل العلم ( والأصناف الثلاثة هم:( الخوارج ’ البغاة , المحاربون ) ولا تسمى ثوراتهم هذه خروجا لا في اصطلاح الفقهاء ولا في اصطلاح القوانين المعاصرة .

فهي تظاهرة شعوبية سلمية لا شوكة لها ولا وسيلة تملكها غير وسيلة الكلمة جمعهم هدف مشترك وهو طلب حقوقهم المشروعة والمضاعة وتنديدهم بالظلم والفساد وهذه الوسيلة أصبحت أنجع الوسائل العصرية في الضغط على الأنظمة الفاسدة وإرغامها على الرضوخ لمطالب الشعوب والشيء الجديد فها أنها تجاوزت حدود النقابات والمنظمات والأحزاب المحدودة العدد إلى الجماهيرية الشعبية التي تشبه السيل العارم الذي لا يقف أمامه شيء ولا تستعصي أمامه قوة نظام مهما كانت وأفلست كل وسائل الأنظمة القمعية أن توقف زحفها أو تثنيها عن مطالبها حتى تهاوت أمامها الأنظمة وأسقط في يدها! وهذه الثورات بطبيعة الحال متعددة التوجهات والمشارب إلا أنه يجمعها في الأصل كونها مسلمة وكونها سلمية ووحدة الهدف وهو إما إصلاح النظام أو إسقاطه وتغييره .

فالحكم على هذه الثورات بأنها خارجية أو باغية أو محاربة هو نوع من العدوان والظلم وتحريف للمصطلحات العلمية والمفاهيم الشرعية التي تبني عليها الفتوى ناهيك عن كونه موقفا عدائيا وإسقاطا للمشروع الدعوي الذي يحمله هؤلاء الدعاة أمام هذه القاعدة العريضة برمته وخطأ فادح من قبل هؤلاء الذين يحكمون على أنفسهم ودعوتهم بالسقوط والموت بسقوط هذه الأنظمة وزوالها !

2. إن لو سلم جدلا بأن هذه الثورات الشعبية خروج على الحاكم فإن هذا الخروج مغاير في شكله ومضمونه لأقسام الخروج الثلاثة التي سبق ذكرها وإنما هو أشبه ما يكون بالقسم الرابع الذي ذكره أيضا أهل العلم وهو خروج أهل الحق الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ومثل هذا وقع على الخلفاء والملوك منذ صدر الإسلام فما بعده ولم يسمه أحد من أهل العلم بأنه خروج بغي أو فساد أو لمز أهله بأنهم خوارج أو بغاة أو محاربون! بل هذا الفعل كان أهله محل تناء وإشادة عند جل أهل العلم وكانوا محل ثقة وإجلال وإن قيل بخطأ الوسيلة , ومن أمثلة ذلك: خروج الحسين بن علي رضي الله عنه على يزيد بن معاوية وخروج أهل المدينة كذلك يوم الحرة ,

وخروج ابن الزبير على بني مروان , وخروج ابن الأشعث ومعه فقهاء التابعين على الحجاج, ومن خلفه عبد الملك بن مروان وخروج زيد بن علي على هشام بن عبد الملك, وخروج محمد بن عبد الله بن الحسن صاحب النفس الزكية على المنصور, وخروج أحمد بن نصر المروزي ومعه أهل بغداد على الواثق العباسي وغير ذلك كثير.

فما يحدث اليوم من أخلاط الدعاة والعلماء والعامة وقيادات والأحزاب والنقابات وسائر طبقات المجتمع أشبة ما يكون بما سبق من الأمثلة إلا أن الفارق بينهما أن تلك الثورات القديمة مسلحة وتتسم بطابع الحربية وهذه الثورات المعاصرة سلمية بحتة ومعترف بها من قبل الحاكم ونظامه وإن قيل عنها ما قيل.

إن النصوص الشرعية الواردة في حق ولاة الأمور وطاعتهم ليست منفصلة عن واجبات هؤلاء الولاة وما التزموا به لأمتهم ولا منفصلة عن شروط انعقاد الولاية لهم, وأعظمها إقامة الحكم بشريعة الله في الأرض والكفر بشرائع الطاغوت , كما أن حقوق الولاة مرتبطة كذلك بإقامة حقوق الرعية التي هي جزء من حقوق الولاية العامة عليهم, وسياستهم بالعدل الذي هو أساس نظام الملك, ورفع الظلم الذي هو أساس كل فساد عنهم, قال تع إلى : )إن الله يأمر بالعدل والإحسان ...)

ومتى ما أضاع الحكام هذه الأسس لم يحل لأحد أن يتعسف بإيراد تلك النصوص لإسعافهم بها عند نزول عقوبة الله عليهم, والحق أن الناظر اليوم في حقيقة هؤلاء الحكام يجزم يقينا أن أكثرهم لا يملكون من مقومات انعقاد الولاية شيئا سوى مسمى الإسلام! مع القطع بارتكاب أكثرهم لجل النواقض المنافية لعقد الإسلام.

وإلا فأي حق بقي لحكام لا يقيمون لشريعة الله تع إلى وزنا بل استعاضوا عنها بقوانين وضعية وشرائع جاهلية! وما لؤوا أعداء الإسلام على شعوبهم وظاهروهم على أمتهم ومثلوا كل أدوار النفاق والخداع وتواطؤا على نهب الثروات, وهتكت الحرمات وظلم الشعوب وارتهانها للأعداء, وأشاعوا الرذائل وحاربوا الفضائل وأقصوا كل ناصح أمين وقربوا كل خوان أثيم ومجرم لعين فلا شريعة ظاهرة ,ولا دنيا عامرة, ولا حق محروس, ولا كرامة مصانة ,وقل ما شئت في هذه الأنظمة ولا حرج .

فأي حق بقي لهؤلاء الولاة بعد إضاعة وإهدار كل هذه الحقوق وأي نص ينطبق عليهم!. لقد كان من الواجب على هؤلاء الدعاة الذين يتصدرون اليوم أو بعضهم القنوات الرسمية لإسعاف هذه الأنظمة بمثل هذه النصوص التي ينقص أصحابها الفقه الراسخ والإدراك العميق لواقع أمتهم وفقه مقاصد هذه الشرعية الجالبة لكل خير والماحية لكل شر.

ومن فقه مقاصدها رعاية مصالح الأمة وسياسة دنياها بالدين بل كان الواجب على هؤلاء أن يرفعوا شعار المفاصلة لهذه الأنظمة التي ألقت الشريعة وراءها وباعت أخراها بدنياها الذي رفعه كليم الله موسى عليه السلام بعد نجاته من عدوه قائلا: ( قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ) هذا وقد كان للسلف في مسالة الخروج على الظلمة مذهبان معروفان لا ثالث لهما, المذهب الأول : الخروج عليهم عند القدرة على ذلك وهذا مذهب جلة التابعين والأئمة الثلاثة عدا أحمد بن حنبل, والمذهب الثاني : هو التوقف وعدم الخروج عليهم درءا منهم للمفسدة التي قد تلحق بالأمة أضعاف ما يستطاع تحمله من جور الحاكم , ومع ذلك كان الإمام أحمد رحمه الله وهو ممن يرى عدم الخروج إذا ذكر عنده يزيد أو ابن زياد أو الحجاج أو غيرهم من الظلمة يقول : ألا لعنة الله على الظالمين ,بيانا منه لبغضهم إلا أنه لا يرى لعن المعين فيكتفي بإيراد الآية , ولم يعرف للسلف مذهب ثالث وهو الوقوف مع الظالم والدفاع المستميت عنه كما هو حاصل اليوم من بعض الدعاة المنتمين ل لسلفيين للأسف.

علينا بدل الاختلاف على هذه الثورات في معترك الحكم وإسقاط الأدلة عليها ,والسعي الحثيث لوأدها أو إجهاض مشاريعها الداعية لنهضة الأمة,

أن نستثمر الجانب الإيجابي فيها ونحافظ على إبقاء الأمة حية حرة وننفخ فيها هذه الروح الأبية لتشعر بالعز والاعتزال وتعود إلى وضعها الطبيعي متمثلة قوله تع إلى (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون).

ولا يجوز أن نظل فقط نرفع في وجهها سياط الترويع والتخويف والإرهاب ونقمعها بالأحكام المجحفة في حقها دون أن نرد لها حقا مسلوبا ً أو ننصر منها مظلوما أو نكف عنها ظالما ,

( ميزات الثورة )

لقد كان لهذه الثورات الأثر الكبير في توحيد كلمة أغلب الشعوب وتقارب الكثير من وجهات النظر المتباعدة أو المتباينة والقدرة على إمكان التعايش بين أصحابها وإن لم يتفقوا في كل شيء فصارت المعتصمات صورة مصغرة للمجتمع الكبير الذي يعيش فيه المجتمع ويتسع لكل الأطراف .

بسبب هذا التفاعل الجماهيري والتعاون على القدر المشترك بين أطياف المجتمع وعلينا أن ندرك أنه لابد من القبول بوجود الآخر وإمكانية التعايش معه والتعاون والاتفاق على مصالح الدنيا ولو مع من نختلف معه بشكل جوهري فالإسلام لا يمنع من ذلك ولا يتنافي هذا مع مبادئه الأصيلة , قال عليه السلام عن حلف الفضول : ( لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت) فكيف إذا كان من تختلف معهم في هذه الساحات من حيث الجملة هم من المسلمين بل جلهم من جمهور أهل السنة , ولا يخفى أن هذا المقصد وهو اجتماع الكلمة من أعظم مقاصد الشريعة التي يجب مراعاتها ولاسيما أن ساحات هذه الثورات صارت من أخصب الساحات الدعوية والتعريف بالدعاة لدى قطاع واسع من الناس وأصبح من ضروراتها قيام الجمعات والجماعات ولم تعد حكرا على طائفة بعينها أو حزب بعينه ولا ينبغي للدعاة أن تخلو منهم هذه الساحات ويتغيبوا عن توجيه الأمة في ميدان محنتها ليكتفوا فقط بإصدار الفتاوى والأحكام ضد هذه الثورات والتي لا يستفيد منها في هذا الظرف سوى النظام المستبد وتفقد الأمة ثقتها بدعاتها وعلمائها ولا يعني هذا السكوت عن تصحيح المسار وترشيد السلوك بل ذلك من أوجب الأمور لهذه الثورات الفتية ولن يكون ذلك إلا من الداخل والنزول إلى ساحات التغيير, ولكن على أولئك الدعاة أن يدركوا أن هذه الشعوب الغاضبة والأصوات الهادرة لم يعد يقدر أحد على ردها بفتوى يصدرها أو بيان يدبجه مهما كانت مكانته العلمية والواقع أصدق برهان على ذلك.

3. ومن ميزات هذه الثورات أنها قامت للبناء لا للهدم فدورها لا يقف عند إسقاط نظام فاسد أو عزل حاكم مستبد ولكنها تتجاوز ذلك إلى إعطاء الأمة الحق في منع الفاسدين من أن يكونوا بديلا لسلفهم وتراقب الحكومات القادمة وتطالب بتحقيق ما وضعته لثورتها من أهداف وتعيد حضورها الفاعل إلى الميدان ودورها الرقابي على الحكام وهو أمر لم نكن نراه أو نعهده إلا من خلال القراءة لبعض حقب التاريخ الإسلامي المشرق .

4)- هذا الثورات السلمية قامت للمطالبة بحق مكفول لها بوسيلة مكفولة لها أيضا وهذا جزء من الاتفاق القائم بين الحاكم وشعبه فإذا منعت وقمت من قبل الحاكم والحال كذلك فهو المعتدي والناكث لعهده والمستبد بشعبه والمسئول عن كل تداعيات هذا القمع

وما نتج عنه من تصعيد في الثورة وردود أفعالها ومنها المطالبة بعزله وإسقاط نظامه وهو ما حصل تماما في أدوار هذه الثورات التي لم يكن لها من غرض في البداية غير المطالبة بحقوقها, فأبى عليها المستبدون إلى أن تتحول إلى بركان عات وريح عاصف تدمر كل شيء بإذن ربها! وإذا كان من حق الحاكم ألا يخرج عليه فإن من حق شعبه أن يستجاب لمطالبه العادلة ويصغى لصوته وألا تواجه الشعوب بالسلاح والقمع , والتحدي والاستفزاز لأنه لا يمكن أحدا بعد هيجانها أن يوقفها مهما كانت قوته كما هو الحال اليوم.

5)-هذه الثورات سياط الله ونقمة من نقماته على الأنظمة الفاسدة وهي اليوم أفتك سلاح بلي به الحكام حيث أتوا من قبلها بما لم يكن في حسبانهم ولا حيلة لهم بدفعه, ولا يخفى أن ذلك من الجزاء الوفاق بسبب تسلط هؤلاء الحكام على شعوبهم , وقد قال النبي عليه السلام : ( اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به ومن شق عليهم فاشقق عليه) , وهذه الدعوة يجلجل صداها اليوم في كل قطر ليذوقوا بعض الذي علموا وليكافئوا بجزء مما صنعوا وليسقطوا على أيدي من رفعوا (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون )

6) برز في هذه الثورات سنة التدافع بالمكاثرة لأهل الحق والمغالبة لأهل الباطل وبرزت للساحات كل الأصوات والتوجهات وانظم بعضها لبعض على اختلاف أطيافها تحت شعار جامع ومطلب موحد وقضية مشتركة وهي إسقاط الظلم ورحيل المستبد.

وهذه السنة يجب اعتبارها ومراعاتها والتفاعل معها بإيجابية لصالح الخير والعدل قال تع إلى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)

7)- وهنا بقي ما حقه التقديم وهو: هوية هذه الثورة , هل هي إسلامية ؟ أم عربية قومية؟ أم هي عمية جاهلية كما يحلوا للبعض أن يسميها؟! وأترك إجابة هذه الفقرة كاملة للدكتور: حاكم المطيري من مقاله الثورات العربية والمصطلحات الوهمية, مع تصرف يسير فيقول : وأقول بأن وصف الشيء بأنه إسلامي أو غير إسلامي من المصطلحات المحدثة التي لا اعتبار لها في أحكام الشريعة، إلا من حيث التعريف والتوصيف للأشياء ليس إلا، فالحكم على الأشياء هو بالنظر إلى مشروعيتها وعدم مشروعيتها، وذلك بحكم الشارع عليها إما بالوجوب أو الاستحباب أو التحريم أو الكراهة أو الإباحة، وقد سبق أن كتبت في ذلك مقالا بعنوان (الثورة العربية رؤية شرعية) وسأحاول تجلية الموضوع هنا أكثر وأكثر فأقول :

وصف (إسلامي) استخدمه المسلمون قديما كمصطلح حادث باعتبارين اثنين :

الأول : بالنظر إلى العصر، كما أطلقوا على شعراء ما بعد الإسلام (الشعراء الإسلاميين) فيعدون فيهم الأخطل وهو شاعر نصراني، إلا أنه إسلامي باعتبار العصر، كما يطلقون على شعراء ما قبل الإسلام (الجاهليين)، وعلى من أدركوا العصرين (المخضرمين).

الثاني : بالنظر إلى من صدرت عنهم، كما في تسمية الإمام الأشعري لكتابه (مقالات الإسلاميين)، لكونها منسوبة لمن ادعوا الإسلام ومنسوبة للفرق والمذاهب الإسلامية للتفريق بينها وبين مقالات أهل الأديان الأخرى.

فهذان هما الاعتباران المشهوران لمصطلح (إسلامي) قديما.

الثالث : باعتبار المشروعية، وقد شاع في العصر الحديث استخدامه لتمييز كثير من الأشياء كمصطلح (أدب إسلامي) و(اقتصاد إسلامي) و(فن إسلامي) ..الخ وهذا باعتبار مشروعيتها في الإسلام.

وبناء على ما سبق فالثورة العربية المعاصرة ثورة إسلامية بكل هذه الاعتبارات والمصطلحات، سواء باعتبار العصر وبالنظر إلى تاريخ الإسلام فهي (ثورة إسلامية)، أو بالنظر إلى من صدرت عنهم وهم الشعوب العربية المسلمة فهي (ثورة إسلامية)، أو بالنظر إلى مشروعيتها في حكم الإسلام في حد ذاتها فهي (ثورة إسلامية)!

والسؤال الصحيح يجب أن يكون عن مشروعية الثورة وعن حكم الشرع فيها، لا عن تسميتها أو وصفها وتعريفها، فهل الثورة التي تقوم فيها الشعوب العربية اليوم جائزة ومشروعة أم لا؟

ولا شك بأنها مشروعة من وجوه :

الأول : أنها ثورة على الظلم المحرم شرعا، من أجل إقامة العدل الواجب شرعا، كما في قوله تع إلى {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار}، وقال سبحانه {قل أمر ربي بالقسط}، وقال {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}، وكما في الحديث الصحيح (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا)، وفي الحديث الآخر (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأخذ على يد الظالم ونصرة المظلوم (لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا..)، وقال (إذا رأت أمتي الظالم ولم تأخذ على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده)، وقال (لا يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفها حقه)، وفي الحديث (أمرنا رسول الله بنصرة المظلوم)..الخ

وكل هذا من المعلوم من الإسلام بالضرورة القطعية، فإنما أرسل الله رسله وأنزل كتبه كما قال تع إلى {ليقوم الناس بالقسط}، فالظلم محرما مطلقا ويجب تغييره، والعدل واجب مطلقا ويجب تحقيقه.

ومن نظر في أحوال العرب اليوم وشيوع الظلم والتظالم بينهم، وما يجري في السجون والمحاكم من ظلم في الأحكام، وما يجري في الوظائف الإدارية من ظلم في الاستحقاق، وما يحدث في دولهم من ظلم سياسي طبقي وفئوي يدرك سبب ضعفهم وانحطاط أحوالهم وتسلط عدوهم عليهم، وهي نتيجة للظلم واستشرائه بينهم، كما في الحديث الصحيح (إنما أهلك من كان قبلهم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)، ولا يشك من يعرف أحكام الله وسننه الشرعية والقدرية أن ما عليه العرب اليوم من ذل وهوان هو من العقوبة والعذاب بسبب سكوتهم عن الظلم الذي ضجت منه الأرض والسماء، وعدم أخذهم على يد الظالم، حتى عمهم العقاب والخذلان، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية (إن الله ينصر الدولة العادلة الكافرة، ويخذل الدولة المسلمة الظالمة)..

وهي أيضا ثورة على الاستبداد المحرم شرعا، من أجل إقامة الشورى الواجبة شرعا، فقد استبد الطغاة بالأمة وشئونها وأرضها وثرواتها على نحو لا تقره الشرائع السماوية ولا القوانين الوضعية، ولا يرضى به أهل الكتاب ولا المشركون ولا الوثنيون البوذيون، حتى جرى في العالم العربي من الحوادث ما لا يصدقه عقل، وحتى تم تصنيف دوله بمعيار الأمم المتحدة بأنها أكثر الدول استبدادا وانتهاكا للحريات وحقوقا لإنسان، وهذا حكم الأمم الأخرى على اختلاف أديانها وقومياتها على أحوال العرب توصلت له بهدايات عقولها، فكيف بحكم الإسلام الذي جاء لتحرير الخلق من كل أشكال العبودية لغير الله، ومن ذلك تحريرهم من الاستبداد كما قال تع إلى {وأمرهم شورى بينهم}، وقال {وشاورهم في الأمر}، وقال {لا إكراه في الدين}..ا

وقد خطب عمر بمحضر الصحابة كما في صحيح البخاري فقال (من بايع رجلا دون شورى المسلمين فلا بيعة له ولا يتابع هو والذي بايعه تغرة أن يقتلا وفي رواية صحيحة (فلا يحل لكم إلا أن تقتلوه)…

وهذا حكم شرعي بإجماع الصحابة - بناء على نصوص القرآن والسنة - على عدم شرعية الاستبداد وتحريمه ووجوب تغييره ولو بقتل المستبد!
وقد تحكم الطغاة بشعوب العالم العربي حتى صار الرجل الواحد المجنون يحكم جبرا بلا شورى ولا اختيار ولا رضا الأمة، ويتصرف بالملايين كما يتصرف السيد برقيقه، يقتل من يشاء بلا محاكمة، ويعفو عمن يشاء، ويهب من يشاء من أموال الأمة ما يشاء، ويمنع من يشاء، ويسجن ويهجر من يشاء..الخ

وهي كذلك ثورة على الفساد المحرم شرعا، من أجل تحقيق الإصلاح الواجب شرعا، كما قال تع إلى {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها}، وقال سبحانه {والله لا يحب الفساد}، وكما في الحديث (طوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس)..الخ

ولا يخفى على أحد مدى الفساد الذي استشرى في دول العالم العربي بكل أشكاله وصوره سياسيا واقتصاديا وماليا وقضائيا وإداريا والواقع المشاهد والتقارير الدولية تؤكد ذلك كله، وقد أصبحت الدول العربية تصنف في عداد الدولة الفاشلة، حيث تحولت الحكومات إلى عصابات إجرامية لا هم لها إلا نهب المال العام، والعبث بمصالح الشعوب، والتواطؤ مع العدو الخارجي على حساب الأمة وأرضها وحقوقها، وما تجري من محاكمات اليوم لزين العابدين في تونس، ولنظام حسني مبارك في مصر، يكشف عن جزء يسير من هذا الفساد، الذي صار ضحيته ملايين الفقراء والسجناء والبؤساء في تونس ومصر والعالم العربي!

وهي ثورة على الجوع والفقر والخوف، من أجل تأمين العيش والحياة الكريمة والأمن المفقود في العالم العربي، وهي من أوجب الوجبات الشرعية التي يجب على السلطة القيام بها وتأمينها، فإذا لم تستطع فللشعوب الحق شرعا في تغييرها.

وهي ثورة على الذل والمهانة والعار الذي لحق بالشعوب العربية وهي ترى حكوماتها تحاصر غزة وتتواطأ مع إسرائيل على الشعب الفلسطيني، ومع أمريكا على احتلال العراق، فثارت على حكوماتها بعد أن فقدت شرعيتها ومشروعية وجودها..

الثاني : أن الثورة على هذه الأوضاع من باب (تغيير المنكر) كما قال تع إلى {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير المنكر باليد ابتداء، واليد المقصود بها القوة كما في الصحيح (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، فجعل الشارع أعلى مراتب الإيمان التغيير باليد والقوة، ومما يؤكد أن اليد في الحديث هي القوة ما جاء في صحيح مسلم (يكون أمراء يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن..)..

وقد قام المسلمون في تونس ومصر بتغيير كل هذه المنكرات العامة بالقوة السياسية الشعبية السلمية، وهو ما أمر الشارع الأمة القيام به كما في الحديث (لتأخذن على يد الظالم)، فقد أخذوا على يد الظالم، وخلعوه وعزلوه.

الثالث : أن هذه الثورة من باب (إقامة القصاص) واسترجاع الحقوق من غاصبيها، وهو واجب بالإجماع، فقد قتل هؤلاء الطغاة آلافا من الأبرياء، وسجنوا الآلاف ظلما وعدوانا، واغتصبوا الأموال، وقد أوجب الله في ذلك كله القصاص، ولا فرق في ذلك بين حاكم ومحكوم، فمن قتل يقتل، ومن أجرم منهم يعاقب، ومن حق الأمة الثورة عليهم حتى يقتص منهم، وحتى يحاكموا على جرائمهم، كما قال تع إلى {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب}، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون يقصون من أنفسهم، حتى قال أبو بكر (وإن أسأت فقوموني).

وقد قام آلاف الصحابة مع طلحة والزبير وعائشة وخرجوا من المدينة إلى مكة ثم إلى البصرة للقصاص ممن قتل عثمان رضي الله عنه وهو رجل واحد، جرد الصحابة رضي الله عنهم سيوفهم من أجل إقامة القصاص على من قتله ظلما وعدوانا، فكيف بمن قتل الآلاف في السجون وخارجها، واغتال الأبرياء في الداخل والخارج؟!

وقد ثارت الشعوب العربية لتقتص ممن ظلمها وسفك دماءها ونهب أموالها واغتصب حقوقها.

الرابع : أن هذه الثورة من باب (جهاد الجائر)، كما في الحديث (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر)، و(أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، وقد خرجت الشعوب العربية بثورة شعبية سلمية وقامت إلى السلطات الجائرة في بلدانها لتأمرها بالمعروف وتنهاها عن المنكر، ومن أجل تغييرها ولتزيل منكراتها، وتقتص منها، وتقيم الحق عليها، وكل ذلك من الجهاد المشروع كما في الحديث (فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن)..

خامسا : أن الثورة العربية المعاصرة في حقيقتها هي خروج الشعب إلى الميادين العامة بشكل سلمي، والاعتصام بها، حتى تستجيب السلطة لهم، وهذا في حد ذاته مشروع بلا خلاف، كما قال تع إلى {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم}، وفي الحديث الصحيح (إن لصاحب الحق مقالا)، فللمظلوم أن يجهر بالقول السوء على من ظلمه، وأن يرفع مظالمه، وأن يتصدى لمن ظلمه، كما قال تع إلى {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}، وقال {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل. إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق}.

سادسا : أن أكثر من وقع فيها من الضحايا هم من المتظاهرين سلميا على يد رجال السلطة ظلما وعدوانا، فالمتظاهرون معتدى عليهم، والسلطة هي التي اعتدت، وقد قال تع إلى {من اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}، والمقتول في مثل هذه الحال شهيد، كما في الحديث الصحيح (من قاتل دون ماله فقتل فهو شهيد) (ومن قاتل دون حقه فقتل فهو شهيد)، (ومن قاتل دون عرضه فقتل فهو شهيد)...الخ.

سابعا : وهذا كله على فرض أن هذه الحكومات شرعية، وأنه تجب لها طاعة على الأمة، أما إذا ثبتت عدم شرعيتها أصلا لفقد شروط الإمامة الشرعية، أو ثبتت ردتها شرعا، فالأمر يختلف ويكون جهادها من باب جهاد الطاغوت كما قال تع إلى {الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا}.

وكل هؤلاء الذين يحكمون في الأمة بغير حكم الله ورسوله بل ويقاتلونها على ذلك ويكرهونها عليه طواغيت وجبابرة يدخلون في عموم قوله تع إلى {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به}، ومن قاتل دونهم بنفسه أو بالكلمة أو بالرأي فهو منهم وممن يقاتل في سبيل الطاغوت وفي سبيل الشيطان!

والخلاصة من هذا كله أن هذه الثورات السلمية الشعبية التي يقوم بها المسلمون في العالم العربي اليوم ثورات إسلامية مشروعة، بل هي من الجهاد في سبيل الله، كما فصلت ذلك في مقالي (المقاومة السلمية رؤية شرعية)، ومن قتل فيها من المتظاهرين ظلما وعدوانا فهو شهيد بإذن الله تع إلى بل هم سادة الشهداء كما في الحديث (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر)..

ولا يشترط للحكم على هذه الثورات بالجواز والمشروعية أن تطالب الشعوب بتحكيم الشريعة، إذ أن قيامهم على الظالم وإبطال جوره وظلمه من إقامة شرع الله وعدله، وكذلك ثورتهم من أجل إطلاق المعتقلين ظلما وعدوانا من سجون الطغاة ونصرة المظلومين هو من إقامة حكم الله وعدله، ورد الغصب وإرجاع الحقوق والأموال المنهوبة من الأمة إلى أهلها هو من إقامة حكم الله وعدله، ورفض الاستبداد بالأمر ورد الأمر شورى بين الأمة هو من إقامة حكم الله وشرعه، ورفض الخضوع للنفوذ الأجنبي هو من إقامة حكم الله وشرعه..الخ

فإذا كانت الشعوب تثور من أجل هذا كله فثورتها مشروعة وهي تمارس بالفعل ما أوجب الله عليها من إقامة دينه وشرعه وعدله والقسط الذي جاء به رسله!

فإن كانت الشعوب الثائرة تستصحب نية تحكيم الشريعة في واقع حياتها كله فهذا هو الغاية، وإلا فلا يشترط في فروض الكفاية أن لا تقام إلا بهذا الشرط، فالجهاد مثلا واجب على الأمة لدفع العدو الخارجي وهو فرض كفاية وقد يتعين، ولا يشترط له أن لا تجاهد الأمة ولا تدفع عدوها إلا بهذا الشرط، إذ الجهاد فرض في حد ذاته، كما إن تحكيم الشريعة فرض في حد ذاته، ويجب إقامة كلا الفرضين، وكذا كل الفروض والواجبات الشرعية، لا يسقط المقدور منها لعدم القدرة على غيره للحديث الصحيح (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)!

ولا يشترط على المظلوم ألا يدفع الظلم عن نفسه حتى يطالب بإقامة الشريعة، ولا يشترط على الجائع ألا يثور من أجل لقمة عيشه حتى يطالب بالشريعة، ومن يشترطون مثل هذه الشروط، أو يبطلون جهاد الأمة اليوم بهذه الذرائع فهم إحدى طائفتين، إما طائفة في قلوبهم مرض ممن داهنوا الطغاة وبرروا لهم طغيانهم واعتذروا لهم عن عدم تطبيقهم للشريعة بأن هذا لا يخرجهم عن دائرة الإسلام ولا يخرجهم عن دائرة الإمامة الشرعية الواجبة الطاعة، حتى إذا خرجت الأمة إليهم، وثارت عليهم لدفع طغيانهم وظلمهم، فإذا هذه الطائفة تجعل من قضية الشريعة وعدم ثورة الشعوب من أجلها الذريعة للحكم على الثورة بعدم الجواز وعدم المشروعية لا نصرة للشريعة التي استخفوا بها وهونوا أمرها للطغاة، بل نصرة للطغاة وحبا لهم، حتى امتلأت قلوبهم قيحا وضغينة على الأمة وشعوبها الثائرة تبديه أفواههم وما تخفي صدروهم أكبر حزنا على سقوط الطغاة بأيدي المستضعفين، فجمعوا بين الإعراض عما أمرهم الله به من جهاد الطاغوت وجهاد السلطان الجائر من جهة، والاعتراض على سنن الله القدرية وعلى عدله في نصرة المظلوم والانتقام من الظالم كما قال تع إلى {فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين... واستفتحوا وخاف كل جبار عنيد} من جهة أخرى!

وطائفة لا يعرف عنها أنها وقفت مع الطاغوت وحزبه، إلا أنها، نأت بنفسها عن جهاد الطاغوت من جهة، وعابت على الأمة قيامها عليه من جهة أخرى، بدعوى أنه يجب على الأمة أن تكون ثورتها لله لا لنفسها، ولدينه لا لدنياها، ونست هذه الطائفة أن سبيل الله وسبيل المستضعفين كلاهما سبيل للمؤمنين كما قال تع إلى {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين}، وأن الله شرع الجهاد عن الدنيا كما شرعه عن الدين كما في قوله تع إلى {قالوا وما لنا ألا تقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا}، وقال تع إلى {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم} وفي الحديث (من قاتل دون ماله فهو شهيد)، فكما شرع الله الجهاد لحفظ الدين، شرعه كذلك لحفظ الدنيا ولحفظ حقوق العباد ومصالحهم وهذا من الدين أيضا..

فثبت أنها ثورة عربية إسلامية شرعية في أسبابها وغاياتها وممارساتها، وهي في أول طريقها، والواجب على علماء الأمة ومفكريها ترشيدها وتوجيهها حتى تستكمل الثورة عناصر نجاحها ولو بعد سنين، والله غالب على أمره ولو كره المجرمون، وقاصمهم ولو شايعهم الجاهلون! إنتهى .

إن الأمة اليوم بحاجة إلى كلمة شجاعة من العلماء في الوقوف إلى جانبها والمطالبة بحقوقها والنزول إلى ساحاتها لترشيد ثوراتها وتصحيح مسارها . ولا يجوز أن يشعروا أو نشعرهم بوقوفنا في وجوههم ومناصرة الطرف الأقوى ضدهم, فإذا كان للحكام حقوق على رعاياهم فإن للرعية حقوقا كذلك على ولاتها.

وهاهي حقوق الشعوب اليوم مضيعة مهدرة لا تنال منها شيئا إلا بشق الأنفس مادامت عليه قائمة وبه مطالبة.

وليحذر الدعاة من الوقوع في هذا المطب الخطير والفخ الكبير الذي نصبه لهم الحكام ليسقطوا ثقة الأمة بهم . وقد استطاعوا للأسف أن يوقعوا جماعة من طلاب العلم والدعاة في هذا المطب حيث جند بعض أولئك أنفسهم في المنابر والقنوات وغيرها للدفاع عن الحكام الفاسدين بحجة القيام بحقوق ولاة الأمر والاستماتة في حشد الأدلة من كل وجه لتجريم الخروج عليهم على كل وجه وفي أي حال ووصل حماس البعض إلى وصف هذه الشعوب الثائرة بالخوارج والبغاة وبالتالي تحريم أي نوع من أنواع المظاهرات السلمية ووصفها بالخروج وهو ما لم يكن يطمع الحكام بالوصول إليه ! حتى وجد الحاكم نفسه محرجا بين ميل نفسه إلى هذه الفتاوى المحققة لرغبته في قمع شعبه, وبين القوانين التي أقرها لشعبه من احترام خياره والقبول برأية عبر وسيلة المظاهرات والاعتصامات وغيرها من الوسائل, وود الحكام لو أخذوا بهذه الفتاوى المنقذة لسلطاتهم من كل خطر يحدق بها! فيا ترى كيف صار هؤلاء ملكيين أكثر من الملك ومستبدين بمصادرة رأي مخالفيهم من العلماء أكثر من استبداد الحكام ؟!!

حتى وصل البعض إلى القول بعدم جواز تنازل الوالي عن ولايته نزولا عند رغبة شعبه ولا يخلع ثوبا ألبسه الله إياه والأصل بقاؤه في الحكم حتى الموت وقد سمعت هذا بأذن من بعض المحسوبين على العلم للأسف فاعجب لذلك !!

أليس من يقول هذا اليوم أحق بوصف الخروج على ولي الأمر فيما قرره وعاهد على الالتزام به لشعبه ممن خرج مطالبا له بالوفاء بعهده!؟

فهل أدرك هؤلاء الدعاة ماذا جنوا على دعوتهم من العداوات وانتزاع ثقة الأمة بهم وكيف سيكون مستقبل دعوتهم غدا وقدر حشروا أنفسهم بذنب هذه الأنظمة الهالكة؟!

لقد أسقطت هذه الثورات العربية عدة مشاريع تستهدف بها الأمة ومنها المشروع الغربي والمشروع الشيعي ومشاريع الانقسام والتشطير التي تهددها وذلك من خلال الآتي:

1. أما المشروع الغربي الاستعماري فإنه يقوم على ضرب كل عوامل الممانعة عند الأمة وقتل روح الإباء فيها ووأد كل نفس للحرية حتى تظل الأمة خائفة مستخذية قابلة لتمرير كل مشاريع التغريب من العلمنة والعولمة والتطبيع, وكل ذلك لا يمكن حصوله إلا في ظل بقاء الأنظمة المستبدة العميلة التي تخدم مصالح الغرب وتنفذ مشاريعه, فيكف يتحقق ذلك في ظل وجود هذه الثورات المهددة لاستمرار هذه الأنظمة وكيف يكون الغرب وراء ظهورها ودعمها ؟

لقد كشفت الثورات العربية المعاصرة المشهد السياسي الدولي بكل أبعاده ومخططاته وتوجهاته في العالم العربي، فالمشروع الاستعماري الغربي حاك مؤامراته لوأد الثورة المصرية والتونسية والالتفاف عليها من الداخل قبل نجاح الثورة وبعد نجاحها بواسطة قوى الثورة المضادة، ومن خلال التحكم في إيقاع الثورة الليبية وضبطها والسيطرة عليها من الخارج بواسطة مجلس الأمن!

كما يعمل المشروع الاستعماري الغربي الصليبي اليوم على قطع الطريق على الثورة اليمنية وتفريغها من أهدافها الثورية من خلال المبادرة الخليجية، فدول الخليج العربي هي حصان طروادة الذي يستخدمه الغرب الاستعماري لاختراق حصون المنطقة منذ القرن الماضي إلى اليوم!

كما أن المشروع الصهيوني الاستيطاني ما زال مذهولا من هول الصدمة التي حلت بحليفه الاستراتيجي نظام حسني مبارك الساقط، مع أنه كان يرصد إرهاصات الثورة منذ خمسة عشر عاما ويحذر من انفجارها كما صرح بذلك شمعون بيريز رئيس الوزراء الإسرائيلي سابقا في كتابه (الشرق الأوسط الجديد) حين قال ص 62(إن الأصولية تشق طريقها سريعا وعميقا في كل بلد عربي في الشرق الأوسط مهددة بذلك السلام الأقليمي واستقرار حكومات بعينها - الحليفة لإسرائيل - وثمة ضرورة للتصدي لهذا الخطر وإطفاء نيران التطرف الديني وتبريد رياح الثورة الساخنة)!

لقد حاول بيريز في كتابه رصد مظاهر الثورة وطرح الحلول لمواجهتها من أجل إقامة شرق أوسط جديد غير أن الثورة العربية حدثت فجأة، وأسقطت الحكومات التي كان يخشى عليها بيريز، وذهبت اقتراحاته لتبريدها أدراج الرياح!

2) أما المشروع الشيعي فهو الآخر مشروع فاشل في ظل هذه الثورات المنادية بالانعتاق

والحرية ورفض الظلم والاستبداد, فالفكر الشيعي كما هو معلوم يقوم على المرجعية الكهنوتية والطاعة المطلقة لرجال الدين والمرجعيات الشيعية, وهي تمثل أبشع صور الاستبداد الفكري والمذهبي وتدعو للجمود والتعصيب والتبعية المطلقة وتصادر عقول الأتباع وحرياتهم في التفكير, وهذا بوصفه لا يتناسب مع طبيعة الثورات المسقطة لهذه الصنمية المتألهة, وستسقط مشروع التشيع كما أسقطت ثورة النهضة العلمية في أوربا تسلط الكنيسة واستبداد رجال الدين المسيحي, ومتى غزت رياح هذه الثورات التحررية مراكز القرار الشيعي وقد فعلت وهي اليوم تعصف بالعراق وسورية الحليفين الرئيسين لإيران وقبل ذلك عمت أنحاء إيران وغدا باقي الدور على البقية فعند ذلك سيسقط هذا المشروع ويشغل أولئك المخططون بأنفسهم (( وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل ))

فالمشروع الإيراني الصفوي الذي تظاهر في الوقوف مع الثورة العربية المصرية والتونسية في البداية ليركب الموجة لترويج مشروعه الطائفي، وخطب أحمدي نجاد بكل صفاقة ليتحدث عن الثورة العربية المصرية وأنها امتداد للثورة الإيرانية وأنها مقدمة لظهور المهدي! غير أنه وفجأة قلب ظهر المجن للثورة العربية السورية والعراقية، ووقف ضدها وحرض عليها واتهمها بأنها مؤامرة خارجية، لا لشيء إلا لأن مصالحه في المنطقة التي اتخذت من العرب ورقة للمساومة والابتزاز تعرضت للخطر!

ولم ير أحمدي نجاد في تحرر العراق وشعبه من الاحتلال، وتحرر سوريا وشعبها من الاستبداد، تمهيدا لخروج المهدي بل تأخيرا لظهوره، فكان لا بد من الوقوف ضدهما، فنجاد هو الوكيل الحصري عن المهدي، والأعلم بما يصلح لخروجه وما لا يصلح، عجل الله فرجه!

لقد كان المشروع الصفوي يحاول فرض نفسه على المنطقة لا كشريك تجمعه مع العرب أخوة الإسلام وأواصر التاريخ الإسلامي المشترك، بل كبديل عن النفوذ الغربي الاستعماري، وكوصي على المنطقة حين غاب المشروع العربي الإسلامي، وخلت المنطقة للمشروعين الصليبي الصهيوني من جهة، والصفوي الطائفي من جهة أخرى، يتصارعان تارة، ويتفاهمان تارة، في غياب كامل لمشروع الأمة الذي سقط منذ سقوط الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولى!

إن وقوف حكومة أحمدي نجاد ضد الشعب السوري وثورته السلمية الشعبية، وضد الشعب العراقي وثورته على الاحتلال وحكومة الاحتلال الطائفية، وما يشاع من أخبار عن دعم إيراني ودعم من حزب الله لمواجهة ثورة الشعب السوري، كل ذلك يفضح ازدواجية معايير السياسة الإيرانية في المنطقة العربية، وأنها لا تقوم على أساس قيمي أخلاقي بل على أساس مصلحي طائفي، وأن حكومة إيران نجاد حين تقف هنا أو هناك فهي تراعي مصالحها القومية والطائفية قبل أن تراعي المصالح الإستراتيجية للأمة وللعالم الإسلامي!

إن من حق حكومة نجاد أن تدافع عن وجودها وعن مصالح الشعب الإيراني المشروعة، إلا أنه لا يحق لها تحت أي ذريعة أن تتجاوز حدودها لتجعل من العالم العربي أحجارا على رقعة الشطرنج تتفاهم مع الغرب الاستعماري من أجل خدمة مشروعها القومي والطائفي، ومشروعه الاستعماري، على حساب مصالح العرب وحريتهم واستقلالهم!

لقد أصبحت إيران اليوم بقيادة الخط النجادي المتطرف ليس جارا مشاكسا أو مزعجا لشعوب العالم العربي، بل أصبحت وبعد موقفها السلبي من ثورة الشعب السوري وثورة الشعب العراقي عدوا يقف وجها لوجه أمام تطلع العرب نحو الحرية والعدل والتحرر من الاستبداد الداخلي والاحتلال الخارجي!

لقد كان لإيران عذر حين كانت تناكف وتشاكس الحكومات العربية بدعوى أنها دول خاضعة للنفوذ الاستعماري الغربي، وأن الحكومات العربية لا تمثل شعوبها - وهو

3) أما مشاريع الانقسام والتشطير فإن أفضل بيئة لتخصيبها هي بيئة الاستبداد والظلم المؤججة للضغائن والأحقاد وحب الانتقام والمغذية لمطالب الانفصال.

وهذا بطبيعة الحال ما فرخ لنا ما بات يعرف بالحراك الجنوبي ومطالب الانفصال وفض الشراكة مع الوحدة, وفرخ لنا أيضا التمرد الحوثي في الشمال , وبقيام هذه الثورة الشعبية تلاشت هذه الأصوات, وتجسدت الوحدة الحقيقية بتوحد الهدف المشترك وهو إسقاط النظام المستبد ورفع الظلم عن الأمة والسعي لتحقيق مطالبها العادلة وحقوقها المشروعة.

وحتى في حال بقاء بعض هذه الأصوات أو ظهورها في المستقبل فلن يكون لها ما يبررها ولن تكون مطلبا شعبيا كما كان بالأمس, بل ستصبح أصوات نشاز منبوذة لا أثر لها في الواقع ولا خوف منها على الشارع.

وفي الختام لا بد لنا من إدراك الفرق بين الحكم على الشيء قبل وقوعه وهو ما يتطلب من الفقيه النظر في المصالح والمفاسد , وكذلك النظر في مآلات الأمور وعواقبها, وتغليب جانب الحيطة والحذر , وسد باب الذرائع المحتملة وغيرها من متطلبات الفتوى قبل إصدارها, لأن المفتي لا يزال في سعة من أمره وقادرا على بيان ما ينبغي أن يكون مما يجب قوله أو فعله, وأما الحكم على الأمور بعد وقوعها وخروجها عن حدود المستطاع وعدم القدرة على السيطرة عليها,فإن الحكم هنا يختلف وينظر فيه إلى ما أمكن تداركه من جلب الخير , أو ما أمكن درؤه من الشر, مع التسديد والمقاربة بين الفريقين , فعند حصول الاختلاف وحدوث الفتنة يجب التزام جانب التهدئة والإصلاح والأمر بأداء الحقوق ورد المظالم كما كان النبي عليه السلام يحسم الخلافات بين أصحابه , وأما الانشغال في مثل هذه الحال بإصدار الأحكام والفتاوى وإسقاطها على أحد الفريقين وبالأخص الأضعف منهما دون إنصافه ونصرته فيما يجب نصره فيه , فإن مورد الفتوى هنا لا يحل المشكلة ولا يرفع الخلاف, ولا يستوفى فيه جانب التحري للصواب والعدل في الحكم, مع احتمال وجود الموانع المختلفة والفوارق الكثيرة التي تمنع من تطابق الأحكام وإن وجد فيها بعض التشابه وهذا هو شأن مسائل الاجتهاد في الجملة , ولا ينبغي لأحد أن يحتكر جانب الصواب فيها لنفسه دون غيره , أو ينكر فيها على مخالفه فضلا عن أن يؤثمه, أو يبدعه ويضلله, فجميع مسائل الاجتهاد لا إنكار فيها ولا تأثيم كما قرره أهل العلم , كما أنه لا يجوز لأحد أن يحكم على شيء إلا بعلم وعدل, وإلا كان حكمه جهلا وظلما, ولا يخفى أن أغلب من يفتي اليوم بحرمة هذه الثورات ويصمها بالخروج على ولاة الأمور وينزل على أهلها أحكام الخوارج أو البغاة , يفتقد أكثرهم العلم بواقع حال الأمة وما تعاني منه, كما ينقصهم كذلك العدل بسبب كرههم للحزبية, واتخاذ مواقف عدائية وأحكام مسبقة من تلك الأحزاب أو الجماعات, فأي شيء يصدر عنها ولو كان حقا فهو محل رد وتشكيك وانتقاد, وهذا المسلك للأسف هو مسلك أهل البدع والأهواء وليس مسلك أهل الحق والإتباع .

وأما ما آل إليه وضع هذه الثورات في كل من (ليبيا وسوريا واليمن) من القمع والتصعيد في اتجاه الحرب من أجل إجهاض المشروع برمته! فهو دليل آخر على صحة ما قلناه من فساد هذه الأنظمة المجرمة التي أفلست من كل وسيلة أخلاقية وفقدت كل أمل لإقناع شعوبها ببقاء, شرعيتها , ولم تر غير خيار الحرب لفرض بقائها على الشعوب بالقوة ,وهيهات لها ذلك!

فخيار الحرب دائما سلاح العاجزين , ووسيلة المفلسين , أبى الله أن يبقي لهؤلاء المفسدين من أثر حسن يذكرون به بعد مصرعهم, أو يختم لهم بخاتمة حسنة, فصاروا يخربون ما شيدوه من مجد زائف ومنجزات وهمية , بأيديهم وأيدي المؤمنين, حتى يكونوا لمن خلفهم عبرة , ويتبعون في هذه الدنيا لعنةّ!

هذا وتتميما للفائدة من هذا البحث المتواضع, أود تتويجه ببحث قيم يتعلق بأصل هذه المسألة تعلقا جوهريا, وهو ذكر أسباب عزل الحاكم من قبل الأمة, ووسائل عزله وأقسام الخارجين عليه, فإلى نص البحث :

مسببات عزل الحاكم.

من المتفق عليه بين العلماء أن الإمام ما دام قائما بواجباته الملقاة على عاتقه ، مالكا القدرة على الاستمرار في تدبير شؤون رعيته ، عادلاً بينهم فإنه لا يجوز عزله ولا الخروج عليه ، بل ذلك مما حذر منه الإسلام وتوعد الغادر بعذاب أليم يوم القيامة ، كما أن الأخطاء اليسيرة ، لا تجوز عزل الإمام ، لأن الكمال لله وحده والمعصوم من عصمه الله ، وكل ابن آدم خطاء وخير الخطابين التوابون ، لكن هناك أمور عظيمة لها تأثير على حيات المسلمين الدينية والدنيوية ، منها ما يؤدي إلى ضرورة عزل الإمام المرتكب لها ، وهذه الأمور منها : ما هو متفق عليه بين العلماء . ومنها : ما هو مختلف فيه . والآن نستعرض هذه الأسباب لنرى آراء العلماء فيها :

الأول : الكفر والردَّة بعد الإسلام :

أول الأمور وأعظم الأسباب الموجبة لعزل الوالي وخلعه عن تدبير أوامر المسلمين هو الردة والكفر بعد الإيمان ، فإذا ما ارتكب الإمام جرمًا عظيمًا يؤدي إلى الكفر والارتداد عن الدين فإنه ينعزل بذلك عن تدبير أمر المسلمين ، ولا يكون له ولاية على مسلم بحال ، قال تع إلى : ﴿ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾ (1) وأي سبيل أعظم من سبيل الإمامة ؟ وفي الحديث الذي رواه عبادة بن الصامت رضي الله تع إلى عنه قال : ( بايعنا - أي رسول الله r - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا

وأثرة علينا ، وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان ) (2) .

قال الخطابي : ( معنى « بواحًا » يريد ظاهرًا باديًا من قولهم باح بالشيء يبوح بوحًا وبواحًا إذا أذاعه وأظهره ) (3) « وعندكم من الله فيه برهان » قال الحافظ ابن حجر : ( أي : نص آية أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل ) (4) . وقال النووي : ( المراد بالكفر هنا المعصية ، ومعنى الحديث لا تنازعوا ولاة الأمور في ولاياتهم ، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرًا محققًا تعلمونه من قواعد الإسلام ) (5) .

ومن مفهوم هذا الحديث أنه لا يشترط أن يعلن هذا الحاكم الردة عن الإسلام أو الكفر ، بل يكفي إظهاره لبعض المظاهر الموجبة للكفر قال الكشميري : ( ودل - أي هذا الحديث - أيضًا على هذا أن أهل القبلة يجوز تكفيرهم وإن لم يخرجوا عن القبلة ، وأنه قد يلزم الكفر بلا التزام وبدون أن يريد تبديل الملة ، وإلا لم يحتج الرائي إلى برهان ) (6) .

فظاهر الحديث أن من طرأ عليه الكفر فإنه يجب عزله ، وهذا أهون ما يجب على الأمة نحوه ، إذ الواجب أن يقاتل ويباح دمه بسبب ردته امتثالاً

لقوله r في الحديث الذي رواه ابن عباس : « من بدل دينه فاقتلوه » (7) .

وقد سبق عند ذكر الشروط أن الكافر لا ولاية له على المسلم بحال وهذا السبب في عزل الإمام محل اتفاق بين العلماء ، ومجمع عليه عندهم ، قال أبو يعلي : ( إن حدث منه ما يقدح في دينه ، نظرت فإن كفر بعد إيمانه فقد خرج عن الإمامة ، وهذا لا إشكال فيه لأنه قد خرج عن الملة ووجب قتله ) (8) .

وقال القاضي عياض : ( أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر وعلى أنه لو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته ، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك ، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر ) (9) . وقال الحافظ ابن حجر : ( أنه - أي الإمام - ينعزل بالكفر إجماعًا ، فيجب على كل مسلم القيام في ذلك فمن قوي على ذلك فله الثواب ، ومن داهن فعليه الإثم ، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض (10) .

وقال السفاقسي : ( أجمعوا على أن الخليفة إذا دعا إلى كفر أو بدعة يثار عليه ) (11) .

الثاني : ترك الصلاة والدعوة إليها :

كما أن من الأسباب الموجبة لعزل الإمام ترك الصلاة والدعوة إليها ، إما جحودًا فهذا كفر ويدخل في السبب الآنف الذكر ، وإما تهاونًا وكسلاً فعلى رأي بعض العلماء أنه معصية وكبيرة من الكبائر ، وعلى الرأي الآخر أنه كفر ، وهناك أحاديث صحيحة تشهد لهذا الرأي منها قوله r : « العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر » (12) . وغيره من الأحاديث وليس هذا محل بحث لهذه المسألة . فعلى أي الحالين يجب عزل الإمام الذي يترك الصلاة عملاً بالأحاديث الواردة في ذلك والتي نهت عن منابذة الأئمة الجورة ونقض بيعتهم وعن مقاتلتهم بشرط إقامتهم الصلاة ومن الأحاديث :

1- ما رواه مسلم عن عوف بن مالك رضي الله تع إلى عنه قال : سمعت رسول الله r يقول : « خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلون عليهم ويصلون عليكم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم » . قال : قلنا يا رسول الله : أفلا ننابذهم عند ذلك ؟ قال : « لا ما أقاموا فيكم الصلاة ، لا ما أقاموا فيكم الصلاة ... » الحديث (13) . ومن مفهوم الحديث أنه متى تركوا إقامة الصلاة فإنهم ينابذون ، والمنابذة هي المدافعة والمخاصمة والمقاتلة .

2- كما يدل على ذلك أيضًا الحديث الذي رواه مسلم وغيره عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : إن رسول الله r قال : « إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن كره فقد برئ ، ومن أنكر فقد سلم ، ولكن من رضي وتابع » ، قالوا : أفلا نقاتلهم ؟ قال : « لا ما صلوا » (14) .

وهذا الحديث فيه التصريح بمقاتلة الأمراء الذين لا يصلون ، ومعلوم أن المقاتلة هي آخر وسيلة من وسائل العزل كما سيأتي .

وقد سبق ذكر كلام القاضي عياض وادعاؤه إجماع العلماء على عزل الإمام ( لو ترك إقامة الصلاة والدعوة إليها ) (15) .

الثالث : ترك الحكم بما أنزل الله :

وهذا السبب أيضًا كالذي قبله تستوي فيه الصور من الحكم بغير ما أنزل الله المخرجة لفاعلها من الإسلام ، وكذلك الصور التي لا تخرجه من الملة ، وقد سبق بحث هذه الصور وتفنيدها .

والذي يدل على أن هذا السبب موجب لعزل الإمام بجميع صوره المكفرة والمفسقة هو ورودها مطلقة في الأحاديث النبوية الصحيحة الآتية :

1- عن أنس بن مالك رضي الله تع إلى عنه أن رسول الله r قال : « اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله » (16) .

2- وعن أم الحصين الأحمسية رضي الله تع إلى عنها قالت : ( حججت مع رسول الله r حجة الوداع ... إلى أن قالت : ثم سمعته يقول : « إن أمر عليكم عبد مجدع - حسبتها قالت : أسود - يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا » . وفي رواية : الترمذي والنسائي سمعته يقول : « يا أيها الناس اتقوا الله وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدع فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله » (17) .

فهذه الأحاديث واضحة الدلالة على أنه يشترط للسمع والطاعة أن يقود الإمام رعيته بكتاب الله . أما إذا لم يحكم فيهم شرع الله فهذا لا سمع له ولا طاعة وهذا يقتضي عزله ، وهذا في صور الحكم بغير ما أنزل الله المفسقة ، أما المكفرة فهي توجب عزله ولو بالمقاتلة كما سبق بيانه في السبب الأول والله أعلم .

الرابع : الفسق والظلم والبدعة :

سبق الحدث على أن من المتفق عليه بين العلماء أن الإمامة لا تعقد لفاسق ابتداء . قال القرطبي : ( لا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز

أن تعقد الإمامة لفاسق (18) . وسبق تفصيل الأدلة الواردة في ذلك عند الحديث عن شرط العدالة .

لكن لو انعقدت الإمامة لعادل ثم طرأ عليه الفسق فما الحكم ؟ هنا حصل الخلاف بين العلماء فمنهم من قال يستحق العزل وتنتقض بيعته ، ومنهم من قال باستدامة العقد ما لم يصل به الفسق إلى ترك الصلاة أو الكفر ، وفصل آخرون القول في ذلك على ما سيأتي :

(1) القائلون بالعزل مطلقًا :

وهؤلاء يرون أن طروء الفسق كأصالته في إبطال العقد وذلك لانتفاء الغرض المقصود أصلاً من الإمامة ، ونسب القرطبي هذا القول للجمهور فقال : ( قال الجمهور : إنه تنفسخ إمامته ، ويخلع بالفسق الظاهر المعلوم ، لأنه قد ثبت أن الإمام إنما يقام لإقامة الحدود واستيفاء الحقوق ، وحفظ أموال الأيتام والمجانين ، والنظر في أمورهم ، وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بهذه الأمور والنهوض بها ... ) .

قال : ( فلو جوزنا أن يكون فاسق أدى إلى إبطال ما أقيم له ، وكذلك هذا مثله ) (19) .

ونسب الزبيدي هذا القول إلى الشافعي في القديم (20) ، وإليه ذهب بعض أصحابه ) (21) وهو المشهور عن أبي حنيفة .

وهو مذهب المعتزلة والخوارج ، أما المعتزلة فقد قال عنهم القاضي عبد الجبار : ( فأما الأحداث التي يخرج بها من كونه إمامًا فظهور الفسق سواء بلغ حد الكفر أو لم يبلغ لأن ذلك يقدح في عدالته ) قال : ( ... لا فرق بين الفسق بالتأويل ، وبين الفسق بأفعال الجوارح في هذا الباب عند مشايخنا ... وهذا مما لا خلاف فيه ، لأنهم أجمعوا أنه يهتك بالفجور وغيره ( وكذا ) أنه لا يبقى على إمامته ) (22) .

وأما الخوارج فإنهم لما كانوا يقولون بأن الفسق يخرج مرتكبه من الإيمان قالوا بانعزال الإمام إذا فسق لأنه حينئذ ليس مؤمنًا - على مذهبهم - وغير المؤمن لا يصلح أن يكون إمامًا ، ومما أجمعت عليه الخوارج هو ( الخروج على الأئمة ) (23) .

(2) القائلون بعدم العزل بالفسق مطلقًا :

وهم جمهور أهل السنة ، قال القاضي عياض : ( وقال جمهور أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك بل يجب وعظه وتخويفه ) (24) .

وقال النووي : ( إن الإمام لا ينعزل بالفسق على الصحيح ) (25) وقال أبو يعلى في المعتمد : ( ذكر شيخنا أبو عبد الله في كتابه عن أصحابنا أنه لا ينخلع بذلك ، أي بفسق الأفعال كأخذ الأموال وضرب الأبشار ، ولا يجب الخروج عليه ، بل يجب وعظه وتخويفه ، وترك طاعته في شيء مما

يدعو إليه من معاصي الله تع إلى ) (26) .

وذهب في كتابه ( الأحكام السلطانية ) إلى أن الفسق ( لا يمنع من استدامة الإمامة سواء كان متعلقًا بأفعال الجوارح وهو ارتكاب المحظورات وإقدامه على المنكرات إتباعًا لشهوة ، أو كان متعلقًا بالاعتقاد وهو : المتأول لشبهة تعرض يذهب فيها إلى خلاف الحق ) (27) .

ثم استدل على ما ذهب إليه بكلام الإمام أحمد في المنع من الخروج على الأئمة لما في ذلك من إحياء الفتنة ، وبالأحاديث الآمرة بالصبر على جور الأئمة وسيأتي ذلك موضحًا فيما بعد .

لكن مما ينبغي التنبيه إليه في هذا المقام هو أن المراد هنا هل الفسق يجعله مستحقًا للعزل أم لا ؟ أما عن الخروج والمقاتلة بالسيف فهذه سيأتي الكلام عليها ، علمًا بأن هناك طرقًا للعزل غير السيف ، سيأتي إيضاحها قريبًا ، وليس كل من استحق العزل يعزل ، وإنما ينظر إلى ما سيترتب على هذا العزل ، فإن ترتب عليه فتنة أكبر لم يجز العزل والخروج عليه . كما لا يجوز إنكار المنكر بمنكر أعظم منه ، أما إذا أمنت الفتنة وقدر على عزله بوسيلة لا تؤدي إلى فتنة ففي هذه الحال يقوم أهل الحل والعقد بعزله لأنهم الذين أبرموا معه عقد الإمامة ، فهم الذين يملكون نقضه .

(3) ومنهم من فصل في ذلك :

وهذا التفصيل من جهتين : من جهة ماهية الفسق ، ومن جهة زمان العزل .

أ- فأما ما يتعلق بماهية الفسق : فقد ذكر الماوردي الشافعي أن الفسق المانع لعقد الإمامة واستدامتها على ضربين :

أحدهما : ما تابع فيه الشهوة . وهو : فسق الجوارح ، وهو : ارتكابه المحظورات ، وإقدامه على المنكرات ، تحكيمًا للشهوة وانقيادًا للهوى . قال : ( فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها ، فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها ) (28) .

الثاني منهما متعلق : بالاعتقاد والمتأول لشبهة تعترض فيتأول لها خلاف الحق ، فقد اختلف العلماء فيها ( فذهب فريق منهم إلى أنها تمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها ويخرج بحدوثه منها ... وقال كثير من علماء البصرة : إنه لا يمنع من انعقاد الإمامة ولا يخرج به منها ، كما لا يمنع ولاية القضاء وجواز الشهادة ) (29) .

ب- أما ما يتعلق بزمان العزل ففيها ثلاثة أوجه وهي كالتالي :

أحدها : ينخلع بنفس الفسق ... كما لو مات .

والثاني : لا ينخلع حتى يحكم بخلعه ، كما إذا فك عنه الحجر ثم صار مبذرًا ، فإنه لا يصح أن يصير محجورًا عليه إلا بالحكم .

والثالث : إن أمكن استتابته وتقويم اعوجاجه لم يخلع وإن لم يمكن ذلك خلع (30) .

وهذا الوجه هو الذي رجحه الجويني (31) وذهب إليه ابن حزم الظاهري فقال : ( والواجب إن وقع شيء من الجور وإن قل أن يكلم الإمام في ذلك ويمنع منه ، فإن امتنع وراجع الحق وأذعن للقود من البشرة أو الأعضاء ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر عليه فلا سبيل إلى خلعه . وهو : إمام كما كان لا يحل خلعه ، فإن امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق ) (32) .

وقد استدل القائلون بالعزل بالأدلة الدالة على اشتراطه في عقد الإمامة ابتداء - وسبق ذكرها - قالوا : فكذلك هنا ، ولأن الغرض من المنصب هو حماية جناب الدين ورفع الظلم وتحقيق العدل ، فإذا انتفت هذه الخصال انتفى مقصود الإمامة والإمامة واجبة شرعًا كما مر فدل على أنه لا بد أن يكون الإمام عادلاً .

واستدل المانعون بالأحاديث الصحيحة الكثيرة في الأمر بالصبر على جور الأئمة وعدم نزع اليد من الطاعة ، وبما يترتب على العزل من

فتن وإراقة الدماء وقد يجلب دفع هذا المنكر منكرًا أكبر منه وهذا لا يجوز ، وسيأتي زيادة بيان وتفصيل لهذه الأدلة قريبًا إن شاء الله .

الخامس : نقص التصرف :

ومن مسببات العزل أيضًا نقص التصرف ، وذلك بأن يطرأ على الإمام ما يقيد تصرفاته أو يبطلها ، وقد قسمه العلماء إلى حجر وقهر :

أ- فالحجر : ( هو : أن يستولي عليه من أعوانه من يستبد بتنفيذ الأمور من غير تظاهر بمعصية ولا مجاهرة بمشاقه ) (33) .

فهذا لا يقتضي عزله وخروجه من أحكام الإمامة ، وإنما ينظر إلى أفعال من استولى على أموره وهي : لا تخرج عن صورتين .

1- أما أن تكون جارية على أحكام الدين ومقتضى العدل ، وفي هذه الحالة يجوز ( إقراره عليها تنفيذًا لها وإمضاء لأحكمها ، لئلا يقف من الأمور الدينية ما يعود بفساد على الأمة ) (34) .

2- وإما أن تكون أفعاله خارجية عن حكم الدين ومقتضى العدل ففي هذه الحال ( لم يجز إقراره عليها ، ولزمه أن يستنصر من يقبض يده ويزيل تغلبه ) (35) .

ب- أما الفهر فله صورتان :

الأولى : الأسر :

وهو : أن يصير مأسورًا في يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص منه ، سواء كان هذا العدو مشركًا أو مسلمًا باغيًا ، وهذا المسألة تحتاج إلى تفصيل كما سيأتي :

1- أن يكون مرجو الخلاص من هذا الأسر فهو في هذه حال باق على إمامته ، قال الماوردي : ( وهو على إمامته ما كان مرجو الخلاص مأمول الفكاك إما بقتال أو بفداء ) (36) وعلى كافة الأمة استنقاذه لما أوجبته الإمامة من نصرته .

2- أن يكون ميئوسًا من خلاصه ، وفي هذه الحال ينظر إلى الآسر :

أ- فإن كانوا المشركين : فعلى أهل الحل والعقد استئناف بيعة غيره على الإمامة .

ب- وإن كانوا بغاة : فلن يخلو حالهم من أمرين :

1- إما أن يكونوا قد نصبوا لأنفسهم إمامًا دخلوا في بيعته ، وانقادوا لطاعته ففي هذه الحال يكون ( الإمام المأسور في أيديهم خارجًا من

الإمامة بالإياس من خلاصه ، لأنهم قد انحازوا بدار تفرد حكمها عن الجماعة وخرجوا بها عن الطاعة ، فلم يبق لأهل العدل بهم نصرة وللمأسور معهم قدرة ، وعلى أهل الاختيار في دار العدل أن يعقدوا الإمامة لمن ارتضوا لها فإن خلص المأسور لم يعد إلى الإمامة لخروجه منها ) (37) .

2- وإما أن يكونوا لم ينصبوا لهم إمامًا ، بل كانوا فوضى لا إمام لهم ففي هذه الحالة يكون ( الإمام المأسور في أيديهم على إمامته ، لأن بيعتهم له لازمة وطاعته عليهم واجبة ، فصار معهم كمصيره مع أهل العدل إذا صار تحت الحجر ، وعلى أهل الاختيار أن يستنيبوا عنه ناظرًا يخلفه إن لم يقدر على الإستنابة ، فإن قدر عليها كان أحق باختيار من يستنيبه منهم ) (38) .

الصورة الثانية : أن يخرج عليه من يستولي على الإمامة بالقوة :

وهذا أحد طرق انعقاد الإمامة كما سبق ذكره ، وهو ما يسمى بالقهر والغلبة ، وفي هذه الحال إذا تمكن هذا القاهر وغلب على الإمام الأول ، واستولى على تدبير الأمور ، فإن الإمام السابق في هذا الحال يكون معزولاً ، وتنعقد الإمامة لهذا المستولي الجديد للضرورة ، وحتى لا يقع الناس في الفوضى والفتنة ، ويعمّ الفساد ، وقد صلى ابن عمر

رضي الله تع إلى عنهما بأهل المدينة يوم الحرَّة (39) وقال : ( نحن مع من غلب ) (40) . وقال : ( لا أقاتل في الفتنة ، وأصلي وراء من غلب ) (41) .

وذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى بطلان إمامة السابق كما في رواية أبي الحارث : ( في الإمام يخرج عليه من يطلب الملك ، فيفتتن الناس فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم ، مع من تكون الجمعة ؟ قال : ( مع من غلب ) (42) .

وقد سبق الحديث عن هذه الطريقة ، وأدلة ثبوتها ، وأقوال العلماء فيها وأنها ليست من الطرق المشروعة وإنما للضرورة ، ولأن مصلحة المسلمين تقتضي ذلك . والله أعلم .

السادس : نقص الكفاءة :

وذلك بعجز عقلي أو جسدي له تأثير على الرأي أو العمل : وهذه منها ما يمنع عقد الإمامة ابتداء ويمنع استدامتها ، ومنها ما يمنع عقدها ابتداء فقط - كما سبق بيانه عند الحديث على الشروط

- ومنها ما لا يمنع العقد لا ابتداء ولا يمنع من استدامتها ، ونحن في هذا المقام سنقتصر على ما يمنع من عقد الإمامة ابتداء ومن استدامتها ، لأن ذلك هو الموجب للعزل فقط .

أ- زوال العقل : بجنون ونحوه ، وهذا مما لا خلاف فيه (43) إذا كان دائمًا لا ينفك ، لأن الجنون يمتد عادة ( فلو لم ينصبوا إمامًا آخر لأدى ذلك إلى اختلال الأمور ، ولأن المجنون يجب ثبوت الولاية عليه ، فكيف يكون وليًا لكافة الأمة ) ؟ (44) وأيضًا لأن ذلك ( يمنع المقصود الذي هو إقامة الحدود واستيفاء الحقوق وحماية المسلمين ) (45) .

هذا إذا كان مطبقًا لا يتخلله إفاقة ، أما إذا كان يتخلله إفاقة يعود فيها إلى حال السلامة ففي هذه الناحية يحتاج الأمر إلى تفصيل ( فإن كان أكثر زمانه الخبل فهو كما لو كان مطبقًا - أي يمنع ابتداء العقد واستدامته - وإن كان أكثر زمانه الإفاقة فقد قيل : يمنع من عقدها ، وهل يمنع من استدامتها ؟ فقيل : يمنع من استدامتها كما يمنع من ابتدائها ، لأن في ذلك إخلالاً بالنظر المستحق فيه ، وقد قيل : لا يمنع من استدامتها وإن منع من عقدها ، لأنه يراعى في ابتداء عقدها سلامة كاملة وفي الخروج منها نقص كامل ) (46) أما إن كان عارضًا يرجى زواله كالإغماء ونحوه فهذا

لا يمنع العقد ابتداء ، ومن ثم لا يمنع استدامتها من باب أولى .

ب- فقد بعض الحواس المؤثرة في الرأي أو العمل مثل :

1- العمى : فهذا يمنع من عقدها ومن استدامتها ، لأنه يُبْطِل القضاء ويمنع من جواز الشهادة - على رأي الجمهور - فأولى أن يمنع من صحة الإمامة (47) . أما عشى العين وضعف البصر فلا يمنع من الاستدامة .

2- الصمم والخرس : ففي انعزاله بطروئهما عليه ثلاثة مذاهب حكاها الماوردي وهي :

الأول : ينعزل بذلك كما ينعزل بالعمى لتأثيرهما في التدبير والعمل ، ورجّح هذا القول (48) ، وعليه اقتصر الرافعي والنووي (49) .

الثاني : لا ينعزل لقيام الإشارة مقام السمع ، والخروج من الإمامة لا يكون إلا بنقص كامل .

الثالث : إن كان يحسن الكتابة لم يعزل ، وإن كان لا يحسنها انعزل ، لأن الكتابة مفهومة والإشارة موهومة (50) .

أما ما لا يؤثر ذهابه في الرأي والعمل كالخَشَم في الأنف الذي يمنع إدراك الروائح ، وفقد الذوق الذي يعرف به الطعوم فإنهما لا يوجبان العزل بلا خلاف ، وكذلك لا ينعزل بتمتمة

اللسان ونحوها لأن نبي الله موسى عليه السلام لم تمنعه عقدة لسانه من النبوة فأولى ألا يمنع الإمامة (51) .

هذا وقد سبقت الإشارة إلى أن من الفقهاء من لا يشترط هذه الأمور في الإمامة عند ابتداء العقد ، ومن باب أولى بعد العقد كابن حزم وغيره لكنه رأي مرجوح كما سبق تبيان ذلك .

ج- فقد بعض الأعضاء المخل فقدها بالعمل أو النهوض :

وذلك كذهاب اليدين أو الرجلين . فإذا طرأ على الإمام شيء من ذلك انعزل لعجزه عن كمال القيام بحقوق الأمة . أما ما يؤثر في بعض العمل دون بعض كذهاب إحدى اليدين أو إحدى الرجلين ففيه وجهان :

الأول : أنه لا يؤثر وإن كان ذلك يمنع عقد الإمامة ابتداء ، لأن المعتبر في عقدها كمال السلامة ، فيعتبر في الخروج منها كمال النقص ، وهذا هو الراجح .

والثاني : يؤثر لنقص الحركة ، فلو كان ذلك لا يؤثر فقده في عمل ولا نهوض كقطع الذكر أو الأنثيين ، فهذا لا يمنع من الإمامة ولا من استدامتها ، لأن ذلك مؤثر في التناسل فقط ... وقد استدلوا على ذلك بوصف الله ليحيى بن زكريا عليهما السلام وثنائه عليه فقال تع إلى : ﴿ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾ (52)ابن عباس رضي الله عنهما ( أنه لم يكن له ذكر يغشى به النساء ... ) (53) قالوا : ( فلما لم يمنع ذلك من النبوة ، فأولى أن لا يمنع من الإمامة ) (54) .

ونحو ذلك سمل إحدى العينين وجدع الأنف والأذن لأن ذلك لا تأثير له على الحقوق والله أعلم .

وسيلة العزل

بعد الحديث عن الأسباب المسببة لعزل أئمة الجور بقي النظر في الوسيلة التي يمكن أن يُعزل بها الإمام المستحق لذلك وهنا ثلاث وسائل هي :

(1) أن يعزل الإمام نفسه :

وقد اتفق العلماء على أن الإمام إذا أحس من نفسه عدم القدرة على القيام بأعباء الإمامة فإن له عزل نفسه ، قال القرطبي : ( يجب عليه أن يخلع نفسه إذا وجد في نفسه نقصًا يؤثر في الإمامة ) (55) وكذلك إذا كان في عزله إخماد لفتنة قد تزداد وتستمر إذا أصرَّ على منصبه ، بل هو محمود في مثل هذه الحالة إذا عزل نفسه ، ولذلك أثنى جميع المسلمين على سبط رسول الله r الحسن بن علي رضي الله عنهما حينما عزل نفسه وتنازل عن الإمامة لمعاوية رضي الله عنه ، بعد أن بايعه أهل العراق حقنًا لدماء المسلمين ، بل قد أثنى عليه قبل وقوعه جده r حينما قال : ( إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين ) (56) .

أما إذا لم يكن هناك عذر شرعي للعزل ، بل طلبًا للتخفيف في الدنيا والآخرة فللفقهاء في هذه المسألة رأيان :

الأول : ينعزل : لأن إلزامه بالاستمرار قد يلحق الضرر به قي آخرته ودنياه (57) ولأنه كما لم تلزمه الإجابة إلى المبايعة لا يلزمه الثبات (58) ، ولأنه وكيل للمسلمين وللوكيل عزل نفسه (59) .

الثاني : لا ينعزل : واستدلوا على ذلك بما روي أن أبا بكر رضي الله تع إلى عنه

طلب من المسلمين أن يقيلوه من منصب الخلافة حينما قال : ( أقيلوني أقيلوني ، قالوا : لا والله لا نقيلك ولا نستقيلك ، رضيك رسول الله لديننا أفلا نرضاك لدنيانا ) (60) .

فلو كان عزل نفسه مؤثرًا لما طلب منهم الإقالة (61) .

والحق أن ذلك راجع إلى مصلحة المسلمين العامة ، فإن كان في بقائه مصلحة كإخماد فتنة ونحوها فعليه البقاء ، وإن كان في بقائه مفسدة أكبر من المصلحة المترتبة على بقائه فعليه الاستقالة ، كما فعل الحسن رضي الله عنه ، وإن كان الأمران متساوين فهو بالخيار والله أعلم .

(2) السيف ( القتال والثورة المسلحة ) :

وهذا هو أخطر الطرق وبسببه تنشأ الفتن عادة ، وهو الذي يراه جميع فرق الزيدية (62) وجميع الخوارج (63) - ومن أجله سموا خوارج - وجميع المعتزلة لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحد أصولهم الخمسة وكثير من المرجئة وبعض الأشاعرة وبعض أهل السنة كما تقدم ، وإن كان فيمن سبق أن ذكرنا أنه مع القائلين باستحقاق أئمة الجور والفسق العزل . إلا أنهم ليسوا مجمعين على هذه الطريقة في كل وقت وهي سل السيوف ، لما يترتب عليها

من مفاسد أعظم من المصلحة المرجوة من عزله .

فالمقصود أنه لا يلزم من قول القائل إن الإمام الجائر الظالم يستحق العزل ويرى الخروج عليه أنه يرى الخروج دائمًا ، لأن هناك طرقًا للعزل غير هذه الطريقة ولا يترتب عليها ما يترتب على هذه . كما أن كثيرًا ممن ذكرناه لا يرى الخروج على الأئمة ويمنع من ذلك وهم الغالبية من أهل السنة ، أنهم يقصدون هذه الطريقة دون غيرها ، يدلّ على ذلك مقاطعتهم وانعزالهم عن أئمة الجور ، وتبيين فسادهم وتحذير الناس منه ، وهذا هو الذي تدل عليه الأدلة المانعة من الخروج .

هذا وقد اختلف القائلون بالسيف والثورة في تحديد العدد الذي ينبغي الخروج عنده إذا اجتمع ( فقال بعض الزيدية : إذا اجتمع عدد مثل أهل بدر ، وقالت المعتزلة : إذا كُنَّا جماعة ، وكان الغالب فينا أنا نكفي مخالفينا ، وقال آخرون : أَيُّ عدد اجتمع ، وقال قائلون : إذا كان مقدار أهل الحق نصف مقدار أهل البغي ) (64) .

(3) الطرق السلمية الأخرى :

وهناك طرق غير ما تقدم ، منها أن يتقدم إلى الإِمام الجائر أهل الحل والعقد الذين عقدوا له البيعة وينصحونه وينذرونه مغبَّة انحرافه ، ويمهلونه ويصبرون عليه فترة من الزمن لعله يرجع أو يرعوي عما هو عليه من ظلم وطغيان ، فإن أصرّ على ذلك فعليهم أن يعملوا لعزله بكل الوسائل الممكنة ، بشرط ألا يترتب على ذلك مفسدة أكبر من المفسدة

المرجو إزالتها ، لأن عزله من النهي عن المنكر ، والمنكر لا يرفع بما هو أنكر منه .

ومن هذه الوسائل ما يسمى في العصر الحديث بالعصيان المدني (65) وهذه الطريقة تكون على النحو التالي : ( إذا شعرت الأمة بأن هذا الإمام فاسق مستهتر وجائر لا يصلح للإمامة ، وتقدمت إليه بالنصيحة ولكنه أبى واستكبر ، فما عليها إلا أن تقاطعه وتقاطع من له به أية علاقة ، وحينئذ يجد نفسه منبوذًا من أمته فإما اعتدل وإما اعتزل ) (66) .

قلت : وهذه لها مستند من الشرع ، وهو ما جاء في الطبراني عن النبي r قال : « يكون في آخر الزمان أمراء ظلمة ، ووزراء فسقة ، وقضاة خونة ، وفقهاء كذبة ، فمن أدرك منكم ذلك فلا يكونن لهم جابيًا ولا عريفًا ولا شرطيًا » (67) . والله أعلم .

قسَّم العلماء الخارجين على الأئمة إلى أربعة أقسام وهم :

1- الخوارج :

وهم أصحاب المذهب المعروف ، وهم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي أبي طالب رضي الله تعالى: عنه يوم التحكيم ثم صار لهم آراء ومعتقدات خاصة بهم ، منها إكفار عثمان وعلي والحكمين . وأصحاب الجمل ومن رضي بتحكيم الحكمين رضي الله عنهم أجمعين ، ومنها الإكفار بارتكاب الذنوب ووجوب الخروج على الإمام الجائر (68) ، ويسمون بالحرورية والشراة والمارقة والمحكمة وهم يصلون إلى عشرين فرقة (69) .

وهؤلاء قد ورد نص صريح من النبي r في الأمر بمقاتلتهم ، فعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تع إلى عنه قال : سمعت رسول الله r يقول : « سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان ، سفهاء الأحلام . يقولون من قول خير البرية ، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة » (70) . وغير ذلك من

الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي أمرت بقتالهم ، ووعدت من قتلهم أو قتلوه بالأجر الجزيل عند الله يوم القيامة .

2- المحاربون :

وهم قطاع الطرق المفسدون في الأرض إذا كان لهم منعة وسلاح واستعرضوا الناس ، فإن على الإمام - إذا تمكن منهم أن يقيم فيهم حكم الله في قوله - تع إلى : ﴿ إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ... ﴾ الآية (71) وكما فعل النبي r بالعرنيين ، أما إذا لم يتمكن الإمام منهم بعسكره فإن على باقي الرعية أن تقاتل معه حتى يقيم الحد عليهم إذا استوجبوا ذلك .

3- البغاة :

وهم الذين يخرجون على الإمام العادل طلبًا للملك بتأويل سائغ ، أو غير سائغ (72) ، وفي حكمهم من خرج على الإمام الحق انتقامًا أو عصبية ، أو قبلية ، أو لغرض دنيوي ، ونحو ذلك ، فهؤلاء لا يقاتلون ابتداء ، وإنما يسعى في الصلاح بينهم وبين الإمام ، فإن كان لهم مظلمة رفعت عنهم ، وإن كان لهم شبهة بين لهم وجه الحق فيها ، وإن كان لهم حق أعطوا إياه ، فإن لم ينصاعوا بعد ذلك إلى الإصلاح وبدأوا في القتال ففي هذه الحالة يقاتلون عملاً بقوله تع إلى : ﴿ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ (73) . ولقوله r : « من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه » (74) .

وهذه الأقسام الثلاثة أوجزنا الحديث عنها لأن محل استكمال الحديث عنها كتب الفقه لمن شاء التفصيل والزيادة على خلاف بين الفقهاء في أحكامهم ، أما الذي يلزم بيانه في هذا الفصل فهم أهل القسم الرابع التالي :

4- أهل الحق :

وهم أهل عدل خرجوا على إمام جائر ، أو هم كما قال الحافظ ابن حجر : ( قسم خرجوا غضبًا للدين من أجل جور الولاة

وترك عملهم بالسنة النبوية ، فهؤلاء هم أهل حق ، ومنهم الحسين بن علي وأهل المدينة في الحرِّة والقراء الذين خرجوا على الحجاج ) (75) فهؤلاء لا تجوز مقاتلتهم على الصحيح ، قال الحافظ : ( وأما من خرج عن طاعة إمام جائر أراد الغلبة على ماله أو نفسه أو أهله فهو معذور ولا يحلُّ قتاله ، وله أن يدفع عن نفسه وماله وأهله بقدر طاقته ) . وقد أَوْرَدَ على هذا القول ما يدل عليه فقال : ( قد أخرج الطبري بسند صحيح عن عبد الله بن الحارث عن رجل من بني نضر (76) عن - علي وذكر الخوارج - فقال : ( إن خالفوا إمامًا عادلاً فقاتلوهم ، وإن خالفوا إمامًا جائرًا فلا تقاتلوهم ، فإن لهم مقالاً ) (77) .

وقال ابن حزم : ( وأما الجورة من غير قريش فلا يحل أن يقاتل مع أحد منهم ، لأنهم كلهم أهل منكر إلا أن يكون أحدهم أقلّ جورًا فيقاتل معه من هو أجور منه ) (78) .

وعلى هذا فإنه إذا كان الإمام جائرًا وخرج عليه عادل فلا تجوز مقاتلة العادل ، أما إذا كان الإمام عادلاً وخرج عليه عادل مثله (79) أو كان جائرًا وخرج عليه جائر مثله ، ففي مثل هذه الحالة يكون القتال قتال فتنة ، والأولى ترك القتال فيها للنصوص الواردة - وستأتي قريبًا إن شاء الله .

كما لا تجب طاعة الإمام وإن كان عادلاً إذا أمر بمقاتلتهم ( إذ طاعته إنما تجب فيما لم يعلم المأمور أنها معصية بالنص ، فمن علم أن هذا هو قتال الفتنة الذي تركه خير من فعله لم يجب عليه أن يعدل عن نصٍّ معين خاص - أي الأحاديث الناهية عن القتال في الفتنة - إلى نص عام مطلق في طاعة أولي الأمر ، ولاسيما وقد أمر الله تع إلى عند التنازع بالرد إلى الله والرسول (80) قال الطبري : ( والصواب أن يقال : إن الفتنة أصلها الابتلاء ، وإنكار المنكر واجب على كل من قدر عليه ، فمن أعان المحق أصاب ، ومن أعان المخطئ أخطأ ، وإن أشكل الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها ) (81) .

هذا فيما يخص مقاتلة أهل الحق أما مقاتلة الكفار والمرتدين فهذا واجب مع جميع الأئمة سواء كانوا عدولاً أم فجارًا ، كما تجب الصلاة خلفهم في الجمعة والجماعات ، لأن هذه الأمور كلها أمور تعبدية طاعة لله تع إلى تجب إقامتها ، سواء كان هناك إمامًا أم لا ، سواء كان هذا الإمام صالحًا أم فاجرًا ، لأن صلاحه وفجوره في هذا المقام على نفسه ، وهذا محل اتفاق بين أهل السنة والجماعة ، ولم يشذ عنهم إلا بعض أهل البدع ، وكانوا ينصّون عليه عادة عند ذكر عقائدهم ، قال الإمام أحمد : ( الجهاد ماض قائم مع الأئمة بروا أو فجروا . لا يبطله جور جائر ، ولا عدل عادل ، والجمعة والعيدان والحج مع السلطان وإن لم يكونوا بررة عدولاً أتقيا ... ) (82) .

هذه هي أقسام الذين يخرجون على الأئمة . ولكل قسم من هذه الأقسام أحكامه الخاصة به في القتال ، وكل واحد منها يغاير الآخر ، ولذلك فقد عاب شيخ الإسلام ابن تيمية على كثير من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم من المصنفين في ( قتال أهل البغي ) فإنهم قد يجعلون قتال أبي بكر لمانعي الزكاة ، وقتال علي الخوارج ، وقتاله لأهل الجمل وصفين ، إلى غير ذلك من قتال المنتسبين إلى الإسلام من باب قتال أهل البغي ، (83) قال : ( أما جمهور أهل العلم فيفرقون بين ( الخوارج المارقين ) وبين أهل الجمل وصفين وغير أهل الجمل وصفين ممن يُعدّ من البغاة المتأولين ، وهذا هو المعروف عن الصحابة ، وعليه عامة أهل الحديث والفقهاء والمتكلمين ) وقال في موضع آخر : ( والمصنفون في الأحكام يذكرون قتال البغاة والخوارج جميعًا ، وليس عن النبي r في قتال البغاة حديث (84) إلا حديث كوثر بن حكيم عن نافع وهو موضوع ، وأما كتب الحديث المصنفة مثل صحيح البخاري والسنن فليس فيها إلا قتال أهل الردة والخوارج ، وهم أهل الأهواء وكذلك كتب السنة المنصوص عليها عن الإمام أحمد ونحوه ، وكذلك فيما أظن - والكلام لابن تيمية - كتب مالك وأصحابه ليس فيها باب قتال البغاة وإنما ذكروا أهل الردة والأهواء ، قال : ( وهذا هو الأصل الثابت بكتاب الله وسنة رسوله ، وهو الفرق بين القتال لمن خرج عن الشريعة والسنة ، فهذا الذي أمر به النبي r ، وأما القتال لمن لم يخرج إلا عن طاعة إمام معين فليس في النصوص أمر بذلك ) (85) ثم بين ما نتج عن هذا الخلط فقال : ( فارتكب الأولون ثلاثة محاذير :

الأول : قتال من خرج عن طاعة ملك معين ، وإن كان قريبًا منه أو مثله في السنة والشريعة لوجود الافتراق ، والافتراق هو الفتنة .

ثانيًا : التسوية بين هؤلاء وبين المرتدِّين عن بعض شرائع الإسلام .

والثالث : التسوية بين هؤلاء وبين قتال الخوارج المارقين من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، ولهذا تجد تلك الطائفة يَدْخلون في كثير من أهواء الملوك وولاة الأمور ويأمرون بالقتال معهم لأعدائهم بناء على أنهم أهل العدل وأولئك البغاة ، وهم في ذلك بمنزلة المتعصبين لبعض أئمة العلم أو أئمة الكلام أو أئمة المشيخة على نظرائهم مدّعين أن الحق معهم ، أو أنهم أرجح بهوى قد يكون فيه تأويل بتقصير لا بالاجتهاد ، وهذا كثير في علماء الأمة وعبادها وأمرائها وأجنادها ، وهو من البأس الذي لم يرفع من بينها ، فنسأل الله العدل فإنه لا حول ولا قوة إلا به ) (86) . أ . ه .

هذه أقسام الخارجين وأحكام مقاتلتهم ، أما عن أحكام خروجهم وقتالهم :

فالقسم الأول : من فعل فعلهم واعتقد عقائدهم فهو مشكوك في إسلامه ، خصوصًا وقد قال r : « يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية » (87) ، وقد اختلف أهل السنة في تكفير الخوارج (88)

أما القسم الثاني : فمن فعل فعلهم فهو عاص لله تع إلى مستحق إقامة الحد المذكور . حد الحرابة .

أما القسم الثالث : فلا يجوز فعلهم لما سبق أن ذكرنا من تحريم الخروج على أئمة العدل والوعيد الوارد في ذلك . وهذا محل اتفاق بين أهل السنة والجماعة .

أما القسم الرابع : فهو محل نظر وهو مجال البحث في هذا الفصل وستتبين لنا النتيجة آخر الفصل إن شاء الله .

الرأي الراجح والنتيجة

مما سبق يتضح لنا قوة أدلة أصحاب المذهب الأول ، وأنها صريحة في المسألة ، وإن كان في أدلة أصحاب المذهب الثاني ما لم يرد عليه اعتراض ، وهو قوي الدلالة في بابه لذلك فيمكننا الجمع بين الأدلة السالمة من الاعتراض (89) عند الطرفين ، وهو الذي يترجح عندنا ، ونستنتجه من هذا الفصل ، وذلك كالتالي :

1- أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب باليد وباللسان وبالقلب بشرط : القدوة والاستطاعة ، وأنه : لا يجوز إنكار المنكر بمنكر أكبر منه .

2- وجوب إقامة الحج والجهاد والجمعة والعيدين مع الأئمة وإن كانوا فسقة لأنه حق لله ، لا يمنعه جور جائر ، ولا عدل عادل .

3- تحريم الخروج على الإمام العادل سواء كان الخارج عادلاً أم جائرًا ، وإن ذلك مما نهى عنه الإسلام أشد النهي وأمر بطاعتهم ، ومن خرج عليهم فهو باغ ، وعليه تحمل الأحاديث المطلقة في السمع والطاعة .

4- أما الإمام المقصر وهو الذي يصدر منه مخالفات عملية ، أو تساهل في الالتزام بأحكام الشرع ، فهذا تجب طاعته ونصحه وعليه تحمل أحاديث « ... فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدًا من طاعة » . وما في معناها ، وأن الخروج عليه حرام ، وإذا كان باجتهاد فهو خطأ .

5- أما الفاسق والظالم والمبتدع: وهو المرتكب للمحظورات والكبائر دون ترك الصلاة لا سيما ظلم الحقوق أو دعوة إلى بدعة فهذا يطاع في طاعة الله ويعصى مع الإنكار عليه في المعصية ، ويجوز عزله إن أمكن بإحدى الطرق السلمية السابقة - عدا السيف - بشرط ألا يترتب على ذلك مفسدة أكبر ، فإن لم يكن ذلك وجب المبالغة في الإنكار عليه والتحذير من ظلمه وبدعته حتى لو أدى الأمر إلى الاعتزال عن العمل معه والتعرض لأذاه بشرط ألا يكون سبب ذلك حقًا شخصيًا ، وعلى هذا تحمل أحاديث : « من جاهدهم بنفسه فهو مؤمن ... » . وحديث : « من دخل عليهم وأعانهم على ظلمهم ... » . وما في معناها مع حديث : « فاصبر وإن جلد ظهرك وأخذ مالك ... » . وعلى هذا تحمل أيضًا أقوال الأئمة الأربعة ونحوهم وأفعالهم ، وما أصابهم بسبب ذلك من محن .

6- الحاكم الكافر والمرتد ، وفي حكمه تارك الصلاة ونحوه ، فهؤلاء يجب الخروج عليهم ولو بالسيف إذا كان غالب الظن القدرة عليهم ، عملاً بالأحاديث : « ... لا إلا أن تروا كفرًا بواحًا ... » و « لا ما أقاموا فيكم الصلاة ... » و « ... ما قادوكم بكتاب الله » . ونحوها مع الآيات

والأحاديث الآمرة بمجاهدة الكفار والمنافقين لتكون كلمة الله هي العليا . أما إذا لم يكن هناك قدرة على الخروج عليه فعلى الأمة أن تسعى لإعداد القدرة والتخلص من شره .

7- وبناء على ما سبق فإنه يمكننا أن نستنبط ضوابط لمشروعية العزل في النقاط التالية :

أ- قيام السبب المقتضي للعزل .

ب- رجحان المصلحة العامة على المضرة .

ج- أن يصدر العزل عن أهل الحل والعقد في الأمة ، لأنهم هم الذين أبرموا العقد معه ، فلهم وحدهم حق حله إذا استوجب ذلك شرعًا .

8- يلاحظ تشديد السلف رضوان الله عليهم في النهي عن الخروج على أئمة الجور بالسيف والأمر بالصبر عليهم ، وذلك لما يلي :

أ- عملاً بالأحاديث الواردة في ذلك كما سبق .

ب- حرصًا على تجنب الفتن وتعرض الأمة لها ، وإراقة الدماء في غير محلها .

ج- ومحافظة على هذا المنصب الجليل في الأمة الذي متى ضعف استهانت بهم أعداؤهم ، ومتى قوي خافتهم وهابتهم .

ولا ينبغي أن يفهم من ذلك أنه الإجلال لأولئك العصاة واحترامهم ، ولا خوف منهم ، ولا الطمع فيما في أيديهم وكسب رضاهم ، يدل على ذلك سيرتهم معهم ، وما يلقونه بسببهم من المحن ، وهي مشهورة منشورة ، ومدونة في بطون الكتب . والله أعلم .

1- الخوارج :

وهم أصحاب المذهب المعروف ، وهم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي أبي طالب رضي الله تع إلى عنه يوم التحكيم ثم صار لهم آراء ومعتقدات خاصة بهم ، منها إكفار عثمان وعلي والحكمين . وأصحاب الجمل ومن رضي بتحكيم الحكمين رضي الله عنهم أجمعين ، ومنها الإكفار بارتكاب الذنوب ووجوب الخروج على الإمام الجائر (90) ، ويسمون بالحرورية والشراة والمارقة والمحكمة وهم يصلون إلى عشرين فرقة (91) .

وهؤلاء قد ورد نص صريح من النبي r في الأمر بمقاتلتهم ، فعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تع إلى عنه قال : سمعت رسول الله r يقول : « سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان ، سفهاء الأحلام . يقولون من قول خير البرية ، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة » (92) . وغير ذلك من

الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي أمرت بقتالهم ، ووعدت من قتلهم أو قتلوه بالأجر الجزيل عند الله يوم القيامة .

2- المحاربون :

وهم قطاع الطرق المفسدون في الأرض إذا كان لهم منعة وسلاح واستعرضوا الناس ، فإن على الإمام - إذا تمكن منهم أن يقيم فيهم حكم الله في قوله - تع إلى : ﴿ إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ... ﴾ الآية (93) وكما فعل النبي r بالعرنيين ، أما إذا لم يتمكن الإمام منهم بعسكره فإن على باقي الرعية أن تقاتل معه حتى يقيم الحد عليهم إذا استوجبوا ذلك .

3- البغاة :

وهم الذين يخرجون على الإمام العادل طلبًا للملك بتأويل سائغ ، أو غير سائغ (94) ، وفي حكمهم من خرج على الإمام

الحق انتقامًا أو عصبية ، أو قبلية ، أو لغرض دنيوي ، ونحو ذلك ، فهؤلاء لا يقاتلون ابتداء ، وإنما يسعى في الصلاح بينهم وبين الإمام ، فإن كان لهم مظلمة رفعت عنهم ، وإن كان لهم شبهة بين لهم وجه الحق فيها ، وإن كان لهم حق أعطوا إياه ، فإن لم ينصاعوا بعد ذلك إلى الإصلاح وبدأوا في القتال ففي هذه الحالة يقاتلون عملاً بقوله تع إلى : ﴿ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ (95) . ولقوله r : « من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه » (96) .

وهذه الأقسام الثلاثة أوجزنا الحديث عنها لأن محل استكمال الحديث عنها كتب الفقه لمن شاء التفصيل والزيادة على خلاف بين الفقهاء في أحكامهم ، أما الذي يلزم بيانه في هذا الفصل فهم أهل القسم الرابع التالي :

4- أهل الحق :

وهم أهل عدل خرجوا على إمام جائر ، أو هم كما قال الحافظ ابن حجر : ( قسم خرجوا غضبًا للدين من أجل جور الولاة

وترك عملهم بالسنة النبوية ، فهؤلاء هم أهل حق ، ومنهم الحسين بن علي وأهل المدينة في الحرِّة والقراء الذين خرجوا على الحجاج ) (97) فهؤلاء لا تجوز مقاتلتهم على الصحيح ، قال الحافظ : ( وأما من خرج عن طاعة إمام جائر أراد الغلبة على ماله أو نفسه أو أهله فهو معذور ولا يحلُّ قتاله ، وله أن يدفع عن نفسه وماله وأهله بقدر طاقته ) . وقد أَوْرَدَ على هذا القول ما يدل عليه فقال : ( قد أخرج الطبري بسند صحيح عن عبد الله بن الحارث عن رجل من بني نضر (98) عن - علي وذكر الخوارج - فقال : ( إن خالفوا إمامًا عادلاً فقاتلوهم ، وإن خالفوا إمامًا جائرًا فلا تقاتلوهم ، فإن لهم مقالاً ) (99) .

وقال ابن حزم : ( وأما الجورة من غير قريش فلا يحل أن يقاتل مع أحد منهم ، لأنهم كلهم أهل منكر إلا أن يكون أحدهم أقلّ جورًا فيقاتل معه من هو أجور منه ) (100) .

وعلى هذا فإنه إذا كان الإمام جائرًا وخرج عليه عادل فلا تجوز مقاتلة العادل ، أما إذا كان الإمام عادلاً وخرج عليه عادل مثله (101) أو كان جائرًا وخرج عليه جائر مثله ، ففي مثل هذه الحالة يكون القتال قتال فتنة ، والأولى ترك القتال فيها للنصوص الواردة - وستأتي قريبًا إن شاء الله .

كما لا تجب طاعة الإمام وإن كان عادلاً إذا أمر بمقاتلتهم ( إذ طاعته إنما تجب فيما لم يعلم المأمور أنها معصية بالنص ، فمن علم أن هذا هو قتال الفتنة الذي تركه خير من فعله لم يجب عليه أن يعدل عن نصٍّ معين خاص - أي الأحاديث الناهية عن القتال في الفتنة - إلى نص عام مطلق في طاعة أولي الأمر ، ولاسيما وقد أمر الله تع إلى عند التنازع بالرد إلى الله والرسول (102) قال الطبري : ( والصواب أن يقال : إن الفتنة أصلها الابتلاء ، وإنكار المنكر واجب على كل من قدر عليه ، فمن أعان المحق أصاب ، ومن أعان المخطئ أخطأ ، وإن أشكل الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها ) (103) .

هذا فيما يخص مقاتلة أهل الحق أما مقاتلة الكفار والمرتدين فهذا واجب مع جميع الأئمة سواء كانوا عدولاً أم فجارًا ، كما تجب الصلاة خلفهم في الجمعة والجماعات ، لأن هذه الأمور كلها أمور تعبدية طاعة لله تع إلى تجب إقامتها ، سواء كان هناك إمامًا أم لا ، سواء كان هذا الإمام صالحًا أم فاجرًا ، لأن صلاحه وفجوره في هذا المقام على نفسه ، وهذا محل اتفاق بين أهل السنة والجماعة ، ولم يشذ عنهم إلا بعض أهل البدع ، وكانوا ينصّون عليه عادة عند ذكر عقائدهم ، قال الإمام أحمد : ( الجهاد ماض قائم مع الأئمة بروا أو فجروا . لا يبطله جور جائر ، ولا عدل عادل ، والجمعة والعيدان والحج مع السلطان وإن لم يكونوا بررة عدولاً أتقيا ... ) (104) .

هذه هي أقسام الذين يخرجون على الأئمة . ولكل قسم من هذه

الأقسام أحكامه الخاصة به في القتال ، وكل واحد منها يغاير الآخر ، ولذلك فقد عاب شيخ الإسلام ابن تيمية على كثير من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم من المصنفين في ( قتال أهل البغي ) فإنهم قد يجعلون قتال أبي بكر لمانعي الزكاة ، وقتال علي الخوارج ، وقتاله لأهل الجمل وصفين ، إلى غير ذلك من قتال المنتسبين إلى الإسلام من باب قتال أهل البغي ، (105) قال : ( أما جمهور أهل العلم فيفرقون بين ( الخوارج المارقين ) وبين أهل الجمل وصفين وغير أهل الجمل وصفين ممن يُعدّ من البغاة المتأولين ، وهذا هو المعروف عن الصحابة ، وعليه عامة أهل الحديث والفقهاء والمتكلمين ) وقال في موضع آخر : ( والمصنفون في الأحكام يذكرون قتال البغاة والخوارج جميعًا ، وليس عن النبي r في قتال البغاة حديث (106) إلا حديث كوثر بن حكيم عن نافع وهو موضوع ، وأما كتب الحديث المصنفة مثل صحيح البخاري والسنن فليس فيها إلا قتال أهل الردة والخوارج ، وهم أهل الأهواء وكذلك كتب السنة المنصوص عليها عن الإمام أحمد ونحوه ، وكذلك فيما أظن - والكلام لابن تيمية - كتب مالك وأصحابه ليس فيها باب قتال البغاة وإنما ذكروا أهل الردة والأهواء ، قال : ( وهذا هو الأصل الثابت بكتاب الله وسنة رسوله ، وهو الفرق بين القتال لمن خرج عن الشريعة والسنة ، فهذا الذي أمر به النبي r ، وأما القتال لمن لم يخرج إلا عن طاعة إمام معين فليس في النصوص أمر بذلك ) (107) ثم بين ما نتج عن هذا الخلط فقال :

( فارتكب الأولون ثلاثة محاذير :

الأول : قتال من خرج عن طاعة ملك معين ، وإن كان قريبًا منه أو مثله في السنة والشريعة لوجود الافتراق ، والافتراق هو الفتنة .

ثانيًا : التسوية بين هؤلاء وبين المرتدِّين عن بعض شرائع الإسلام .

والثالث : التسوية بين هؤلاء وبين قتال الخوارج المارقين من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، ولهذا تجد تلك الطائفة يَدْخلون في كثير من أهواء الملوك وولاة الأمور ويأمرون بالقتال معهم لأعدائهم بناء على أنهم أهل العدل وأولئك البغاة ، وهم في ذلك بمنزلة المتعصبين لبعض أئمة العلم أو أئمة الكلام أو أئمة المشيخة على نظرائهم مدّعين أن الحق معهم ، أو أنهم أرجح بهوى قد يكون فيه تأويل بتقصير لا بالاجتهاد ، وهذا كثير في علماء الأمة وعبادها وأمرائها وأجنادها ، وهو من البأس الذي لم يرفع من بينها ، فنسأل الله العدل فإنه لا حول ولا قوة إلا به ) (108) . أ . ه .

هذه أقسام الخارجين وأحكام مقاتلتهم ، أما عن أحكام خروجهم وقتالهم :

فالقسم الأول : من فعل فعلهم واعتقد عقائدهم فهو مشكوك في إسلامه ، خصوصًا وقد قال r : « يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية » (109) ، وقد اختلف أهل السنة في تكفير الخوارج (110) .

أما القسم الثاني : فمن فعل فعلهم فهو عاص لله تع إلى مستحق إقامة الحد المذكور . حد الحرابة .

أما القسم الثالث : فلا يجوز فعلهم لما سبق أن ذكرنا من تحريم الخروج على أئمة العدل والوعيد الوارد في ذلك . وهذا محل اتفاق بين أهل السنة والجماعة .

أما القسم الرابع : فهو محل نظر وهو مجال البحث في هذا الفصل وستتبين لنا النتيجة آخر الفصل إن شاء الله

الرأي الراجح والنتيجة

مما سبق يتضح لنا قوة أدلة أصحاب المذهب الأول ، وأنها صريحة في المسألة ، وإن كان في أدلة أصحاب المذهب الثاني ما لم يرد عليه اعتراض ، وهو قوي الدلالة في بابه لذلك فيمكننا الجمع بين الأدلة السالمة من الاعتراض (111) عند الطرفين ، وهو الذي يترجح عندنا ، ونستنتجه من هذا الفصل ، وذلك كالتالي :

1- أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب باليد وباللسان وبالقلب بشرط : القدوة والاستطاعة ، وأنه : لا يجوز إنكار المنكر بمنكر أكبر منه .

2- وجوب إقامة الحج والجهاد والجمعة والعيدين مع الأئمة وإن كانوا فسقة لأنه حق لله ، لا يمنعه جور جائر ، ولا عدل عادل .

3- تحريم الخروج على الإمام العادل سواء كان الخارج عادلاً أم جائرًا ، وإن ذلك مما نهى عنه الإسلام أشد النهي وأمر بطاعتهم ، ومن خرج عليهم فهو باغ ، وعليه تحمل الأحاديث المطلقة في السمع والطاعة .

4- أما الإمام المقصر وهو الذي يصدر منه مخالفات عملية ، أو تساهل في الالتزام بأحكام الشرع ، فهذا تجب طاعته ونصحه وعليه تحمل أحاديث « ... فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدًا من طاعة » . وما في معناها ، وأن الخروج عليه حرام ، وإذا كان باجتهاد فهو خطأ .

5- أما الفاسق والظالم والمبتدع : وهو المرتكب للمحظورات والكبائر دون ترك الصلاة لا سيما ظلم الحقوق أو دعوة إلى بدعة فهذا يطاع في طاعة الله ويعصى مع الإنكار عليه في المعصية ، ويجوز عزله إن أمكن بإحدى الطرق السلمية السابقة - عدا السيف - بشرط ألا يترتب على ذلك مفسدة أكبر ، فإن لم يكن ذلك وجب المبالغة في الإنكار عليه والتحذير من ظلمه وبدعته حتى لو أدى الأمر إلى الاعتزال عن العمل معه والتعرض لأذاه بشرط ألا يكون سبب ذلك حقًا شخصيًا ، وعلى هذا تحمل أحاديث : « من جاهدهم بنفسه فهو مؤمن ... » . وحديث : « من دخل عليهم وأعانهم على ظلمهم ... » . وما في معناها مع حديث : « فاصبر وإن جلد ظهرك وأخذ مالك ... » . وعلى هذا تحمل أيضًا أقوال الأئمة الأربعة ونحوهم وأفعالهم ، وما أصابهم بسبب ذلك من محن .

6- الحاكم الكافر والمرتد ، وفي حكمه تارك الصلاة ونحوه ، فهؤلاء يجب الخروج عليهم ولو بالسيف إذا كان غالب الظن القدرة عليهم ، عملاً بالأحاديث : « ... لا إلا أن تروا كفرًا بواحًا ... » و « لا ما أقاموا فيكم الصلاة ... » و « ... ما قادوكم بكتاب الله » . ونحوها مع الآيات

والأحاديث الآمرة بمجاهدة الكفار والمنافقين لتكون كلمة الله هي العليا . أما إذا لم يكن هناك قدرة على الخروج عليه فعلى الأمة أن تسعى لإعداد القدرة والتخلص من شره .

7- وبناء على ما سبق فإنه يمكننا أن نستنبط ضوابط لمشروعية العزل في النقاط التالية :

أ- قيام السبب المقتضي للعزل .
ب- رجحان المصلحة العامة على المضرة .
ج- أن يصدر العزل عن أهل الحل والعقد في الأمة ، لأنهم هم الذين أبرموا العقد معه ، فلهم وحدهم حق حله إذا استوجب ذلك شرعًا .

زر الذهاب إلى الأعلى