[esi views ttl="1"]
arpo28

استعصاء الوعي وسطوة الذاكرة.. على عتبات رواية "تبادل الهزء" لمحمود ياسين

في 120 صفحة فقط و مع كونها العمل الروائي الاول لكاتبها , لا تكتفي " تبادل الهزء" بتقديم وقائع مواجهة فرد للعالم بل تطرح اشكالات الوعي و الذاكرة كتمفصلات فارقة في ثورة الذات على نفسها .تقوم حركة السرد في الرواية على اقتفاء اثر الذاكرة وهي تجهد في ملء فجوات الواقع المحكي باستحضارات مكثفة للذات المسرودة التي تخضع محتوى الذاكرة لعمليات حذف و انتقاء بما يدفع هذة الذات للتدفق المطرد داخل عالمها الخاص في نشدانها لحياة اكثر حسية و ضجيجا .

بؤرة الرواية وواجهتها المتحركة هي شخصية العزي و هي نموذج للمثقف اليمني الذي يعاني من حالة اغتراب – باعتبار الاغتراب حالة تعارض بين الماهية و الوجود – و هو المثقف الذي يستشعر الفجوة بين ثقافته المكتسبة عبر القراءة و المعرفة و بين الواقع المعايش و المفارق ,انه التقاطع بين عالم الكلمات (اللغة و الوعي ) و عالم الاشياء (التجربة المباشرة و الواقع العياني ) وفيما يشبه المقاربة التصنيفية , نجد ان الكاتب أو الاديب - عموما - ينقسم إلى قسمين تبعا لنوعية بواعثه الكتابية فهو اما ان يكتب انطلاقا من محصلة اشتباكه مع الواقع و التجربة الحية ( اللغة من داخل الحياة ) أو انه يكتب مستمدا مادته من فضاء الكتب و افق اللغة ( اللغة من داخل اللغة ), و اذا كانت الكلمات لا تحيل سوى لنفسها فانها ايضا تنفتح على الاشياء عبر السياق الدلالي .
" العزي " كصحفي و مثقف قارىء جيد و مستوعب للعالم من حوله , مستغرق في الاحالات و المدلولات الكامنة داخل لغته و من ثم داخل فكره و وعيه المتكون من خلال الآخر ( الآخر المدرك كمعطى ساكن , المقروء الذي قد يجر المثقف إلى فخ اللاتماثل ) لكنه بدأ يستشعر الهوة الهائلة بين وعيه كمثقف و بين واقعه الاجتماعي و الحياتي المختلف تماما , لانه واقع يفرض انساقا ذهنية و ممارسات ثقافية اخرى , ويبدو ان ما دفعه لملامسة هذة الهوة هو ذكرياته , ذكريات الطفولة في القرية و الدراسة الثانوية في المدينة و فترة المراهقة , و لان استرجاع الذكريات و ابداء المواقف منها و عرض شخوصها امر عضوي في نسيج هذة الرواية , تصبح الذكريات هي الجسر الذي يربط بين وعي العزي كمثقف و واقعه المعاش " المنفصل عن ذلك الوعي " , و يجيد الراوي توزيع استرجاعات الماضي بشكل مبعثر لكنه متسق مع العالم الداخلي للشخصية واعتمالاتها النفسية و بشكل يقترب كثيرا من بنية الذكريات نفسها من حيث كونها ذاتية جدا و غير خاضعة لظرف موضوعي الا في حالة ان يمثل موقف أو حدث ما مثيرا مباشرا لاستدعاء ذكرى معينة و حتى في هذة الحالة يظل الاستدعاء راجع لاسباب ذاتية .الذاكرة/ القنطرة ينتقل عبرها العزي من صحفي يكافح الفساد و مثقف يقاوم وهم ان الافكار تتطابق مع الواقع إلى ابن القرية الهازىء بكل شىء , انها تساعده في اعادة تشكيل ذاته على الوجه الذي يريده كونها تحجب عنه تماما التفكير في المآلات ( فيما عدا مآل مشروع الرواية ) و الانغماس فقط في الراهن المتغير , فاسترجاعات الذاكرة ظلت تقوده إلى حالات متناظرة مع تحوله الجديد في عودته للقرية و تركه العاصمة و العمل الصحفي . الجسد , النساء , شقاوة الطفولة , الخيال الفلكلوري ..كلها نقاط انطلقت منها ذاكرته في تحركاتها الخاطفة داخل الماضي و هي ايضا مرتكزات اندفاعه نحو التغير الكامل ذي البعد الزمكاني , حيث المكان عامل جوهري في تغير العزي و كأن المكان / الزمان قالب تتموضع فيه الذات في عملية ادراكها للوجود ( و هذا مبدأ اساسي في فلسفة كانط المعرفية ) .
المكان في الرواية ليس تقليديا فهو لا يعتبر سببا في غربة الذات , المدينة - هنا – ليست " النداهة " التي تسلب المرء براءته , انها تحضر في الرواية كمسرح عملياتي – ان صح التوصيف – يواجه فيها الفرد اختبارا مصيريا , فالمدينة شهدت عراكا للعزي مع المؤجر و اضراما لحريق في مقر صحيفة مثلما ستكون القرية ساحة نزال مع عبدالرحيم . ليست القرية تجسدا لمراتع الصبا كما هي في المعتاد لكنها وجهة نظر مختلفة يحضر فيها الحسي و المباشر و يتراجع الذهني و المعنوي فيما تقوم المدينة بالعكس , فالرواية لا تنقل صراع المدينة و القرية داخل الذات الفردية بل هي تصور اختلاف الكيفية و تفاوت العناصر و تغير تراتبية ( الجسدي/ العقلي , الحسي / المعنوي ). ان مواجهة ارتكاسات الوعي نحو السائد الاجتماعي و حالات تجاذب / تنافر / تجاور قيم المدنية و التحضر مع ثقافة القبيلة بكل قطيعتها الفجة , الانتقال من الريف إلى المدينة للدراسة ثم تاليا للعمل الصحفي و ايضا دورة الاحداث من المدينة "صنعاء " ثم " ريف صنعاء " و العودة إلى " اب " و "ريف اب" كما تتوالي داخل الرواية ,كل ذلك بما يحمله من انعكاسات متوارية وظاهرة يطرح ثنائية الريف / الحضر التي هي وفقا لعلم الاجتماع الخلدوني محدد رئيسي للتغير الاجتماعي , وهو التغير الذي ترصده الرواية بحذق لكنها تتجاوزه على مستوى حضور هذة الثنائية في احداث حالة الاغتراب لدى العزي .
المكان كحيز فيزيائي لا يكتسب اهميته الا مع الالفة الحميمية معه و ذلك عادة ما يفسر سبب ارتباط ذكرياتنا القديمة مع المكان بوصفه بعدا اساسيا في تمثلات الذاكرة التي تعيد ربط علاقتنا بالمكان من خلال شعور نفسي أو احساس ما سلبي كان أو ايجابي . و امعانا في التخلص من المكان يقرر احراق مقر الصحيفة و هو الفعل الذي " سيكون عملا جنونيا قد يناقض واقعية حياته القادمة , لكنه بحاجة ماسة لفعل ملموس ضدالكاتب و ضد الامكنة المذلة .ص 22"و رغم ان سياق الحكي لم يقدم بواعثا كافية لدى العزي تدفعه لعمل كهذا الا ان حركة السرد في وصفها للاعتمالات في ذهنية العزي تكشف إلى اي مدى تمثله شخصيته من هوس للفعل إلى درجة التهور و يظهر ذلك كسمة ثابتة في شخصية العزي من خلال سرقة القات و المواجهة مع عبدالرحيم ( شخصية نقيضة للعزي يمكن قراءتها في سياق آخر ) في القرية .
داخل الرواية الذات تمارس فعل طرد مركزي لكل سواكنها لا بحثا عن معنى وجودي أو تخلصا من وهم مستحكم بل سعيا وراء الالتحام المحسوس بالجزئي و المباشر و المفعم بالحياة ( كما في علاقة العزي بأمرية ,علاقته مع شخوص القرية , مغامراته في سرقة و حراسة القات , صراعه مع عبدالرحيم), انها الذات الرامبوية – نسبة إلى رامبو الذي هجر الشعر و الحياة الباريسية و تفرغ لتجارة السلاح و الرقيق في الحبشة - اذ لم يفر " العزي " من عمله كصحفي في العاصمة لانه لم يحقق فيها ذاته فتلك تناولة سطحية لم تنزلق اليها الرواية و لكن لانه شعر بأن عليه الانتقال من تلك المرحلة أو المحطة في حياته إلى اسلوب حياة و نمط معيشة آخر ( القرية حيث يسرق القات و يحمل السلاح ). لم يكن العزي يريد انجازشىء سوى الامتلاء بالتجربة الحسية , المحتدمة , الصدامية - ان اقتضى الامر - الانتقال من دافع الحياة ( ايروس ) إلى دافع الموت (ثلاموس ) أو لنقل التحول بين نزعتي البناء والتدمير , و بمقاربة سيكولوجية اخرى الانتقال من (الخيالي) إلى (الواقعي) بحسب التحليل النفسي عند جاك لاكان .
تطور الشخصية و انتقالها من ازمة الكينونة إلى الانقلاب على نفسها – حين قام العزي بحرق مقر الصحيفة و من ثم التغير المكاني لمسرح الاحداث ( صنعاء , ريف صنعاء , مدينة اب , القرية ) الذي تساوق مع الاندياح المتقطع للذكريات فحيثما نجد مراوغة الذات لحاضرها يبدأ استرجاع الذكريات التي تعود إلى ايام الطفولة قليلا ثم ما تلبث ان تتبع رحلة العزي منذ انتقاله للمدينة لدراسة الثانوية ثم انتقاله للعاصمة للدراسة الجامعية و العمل هناك كصحفي و حلمه في انجاز رواية مع التجاذبات الفكرية التي تدفعه للتخلي عن القيمة الرمزية للمثقف و العودة لاسلوب حياة اكثر محسوسية و بساطة , ثم رحلة العودة و قد قرر نهائيا " الافلات من فوضاه و الحياة في تداعياته الذهنية بحثا عن دنيا ملموسة .ص 22" .العيش في القرية يعني عمل انفصال كامل عن النموذج الذي كان قد اختاره لنفسه في ان يكون كاتبا مع بقاء رغبته في كتابة رواية قائمة كما يظهر ذلك في المشهد الاخير من الرواية و كان قبل ذلك قد اقنع نفسه باستنفاذ الفن كقيمة اعتبارية كما بدا ذلك في محاضرته لكتاب القصة . بدأ العزي بنشدان واقع مختلف ينقله من المعنوي و المجرد إلى المحسوس و المادي, حيث يمكنه " تحويل التداعيات الذهنية إلى تواجد ملموس .ص 8 " و هو " وجود ملموس غير معقد , و يمكن لقريته تقديم هذا الوجود بلا مقولات منتزعة من الكتب .ص 7 ".هذا التوق للتخلص من انفصال الوعي عن الواقع لم يستغرق طويلا فالرواية لا تقدم حالة الانفصال هذة كحبكة رئيسية داخل الرواية – كالروايات الوجودية مثلا – بل انتقلت إلى ما بعد المأزق الوجودي و ركزت على الكيفية التي حاولت من خلالها الشخصية الانسلاخ عن راهنها الغارق في الجواني كحالة تخلو من الفاعلية . كان العزي " قد تعب من شخصية اللامنتمي " الذي يهزأ بالعالم دون جدوى , لانه منفعل , غير فاعل سواء في الذات أو الآخر , لذا بدأ العزي بفك ارتباطه مع المكان ابتداءا من غرفته المستأجرة و عراكه مع المستأجر ( العراك بداية للتحول نحو التجربة الحسية )..".. و هو قد قرر بخفة انه لم يعد بينه و بين الغرفة اية علاقة من اي نوع , الكتب و السجائر اليابسة و المنولوجات الداخلية .ص 24 ), في المدينة كان عراكه مع المؤجر و نزيف انفه " بغير ما حاجة لملمس الدم " حيث استخدم منديلا لمسحه , وقد وجد ذلك تدشينا " لدنيا الاشياء الملموسة" بينما في القرية حين اصيب في بطنه " كانت اصابعه تتلمس الدم " ..هذة المفارقة تقدم قراءة واضحة لتحولات العزي الداخلية .
بعد انقاذه لحمود حارس مقر الصحيفة من الحريق , يذهب العزي ضيفا عند قبيلة حمود الذي تمثل شخصيته معاكسة لشخصية العزي " لانه شخص ينتمي إلى قبائل صنعاء و يحاول تمدين ذاته " , و يظهر رأي العزي فيه واضحا " ثم ان هذا الجهد المدني الذي يدأب عليه الحارس غير ذي جدوى بالنسبة للعزي و إلى الدرجة التي يمكن القول هنا ان العزي و في حمى تفاقمه بقرار العودة إلى القرية فكر ان الحارس خدع تماما و انه بمغادرة قبيلته قد عزل نفسه عن مكمن قوته .ص15", و مع التعريض بحادثة اختطاف مارينا اليونانية يظهر العزي غير مكترث بالحادثة نفسها لانه يحاول بجدية التخلص من وعيه المناقض لثقافة القبيلة و مع ذلك هو يرفض القبيلة في علاقتها الهرمية , و يسعى اليها في علاقتها الافقية ( كما في القرية ) و يتعزز ذلك فيما بعد في صراعه مع عبدالرحيم , و قبل ذلك هو يتخلى عن العلاقات التعاقدية التي تميز مجتمع المدينة سعيا للعودة إلى روابط الدم و اواصر العشيرة الحاضرة في مجتمع القرية .
منذ البداية ظهرالتناقض الجدلي لوعي العزي , يظهر ذلك عندما دون رقم امراة يطمع في مواعدتها على البيان التضامني في قضية اغتيال جار الله عمر , من هنا و حتى المشهد الدامي حين ينزف العزي و بجواره مشروع الرواية تتصارع الثنائية المتعارضة في وعي العزي ( العزي كقروي مغامر ) النزعة الديونيسوسية التي تمثل صوت الرغبة و الغريزة و الفطرة , و (العزي كمثقف مدني ) النزعة الابولونية الممثلة للعقل و الحكمة و المنطق , و هما النزعتان اللتان صاغهما نيتشه استنادا على الميثولوجيا اليونانية و جسدهما كازنتزاكيس روائيا في " زوربا اليوناني " حيث مثل الراوي النموذج الابولوني و زوربا النموذج الديونيسوسي, لكنهما هنا صوتان متجادلان متعارضان في شخصية العزي الذي يروض ذهنيته لتتجاوز ازمته الوجودية الماثلة في كونه مثقف قلق و متسائل ليحولها إلى شغف عنيد و جموح حاد للسخرية من الواقع و الامتلاء الكثيف باللحظة بكل مفارقاتها و دراميتها ." مسألة خيارات متعددة و تحويل كل شىء إلى وقود من نوع ما و مبرر ذكي لاختيار نمط حياة و ليس هدرها .ص93)
كون العزي كان يدون مذكراته و يأمل في كتابة رواية و تداخل هذة المذكرات مع نسيج الرواية كصوت الانا الساردة في الفصل الثاني ثم ظهور الراوي المشارك مع ظهور بسيط ل " نا" الساردين يكشف ضمنيا ان ما يتم سرده وقع بعد اطلاع الراوي على مذكرات العزي المكتوبة بصوت الانا الذي يتواجد في مواضع متفرقة داخل الرواية و هي الذات التي تحضر كبطلة للرواية و في نفس الوقت يبلغنا هذا الراوي نحن القراء بان العزي هو روائي مثقف يحاول تغيير حياته جذريا و نبذ ماضيه,اي انه في حركة ضدية لما كان عليه ,ومع عودته إلى القرية لم يتخل العزي عن كتابة مذكراته / روايته و التي ظل يحملها كمشروع حتى اللحظة الاخيرة في الرواية حيث الحدث الدامي " البالغ الحسية ", ذروة الحسي الذي كان العزي شغوف بمعايشته عندما اصيب بطلق ناري في البطن بينما مشروع الرواية ملقى تحت صخرة كان يحتمي بها .
فهل يعني ذلك ان الراوي " السارد المشارك "هو شخص قريب من العزي اطلع على مشروع الرواية بعد رحيل العزي جراء اصابته برصاصة ( مثلا ) و قام بقص الرواية بعد قراءته لمشروع الرواية و هكذا هو حينا يحكي ما يعرفه من احداث و يمزج ذلك بمقاطع من المذكرات / الرواية ؟!!..
هناك ما يشير إلى منظور الرواية من موقع الراوي المشارك كما في هذا المقطع : " ..و بدا للعزي ان مذكراته خلدت للنوم و استراحت بعد خروجه من صفحاتها ...انفصل العزي عن مذكراته فيما يشبه مأساة اغريقية تحولت إلى حكاية لن يرويها العزي ... فصول من حياة بطل رواية من ذلك النوع المتداول و المعروف بالشريد المتعالي , و الذي مات في طريق الوهم و هو ينزف مداد مذكرات تفتقر فكرة البحث عن منابع الرواية .ص 109 ".
اذا سلمنا بافتراض ان السارد هو شخصية مشاركة فلماذا اذن يتطابق منظورها السردي (زاوية النظر التي من خلالها تسرد الاحداث ) مع وعي العزي ؟
كيف امكن للسارد ان يتحدث عن جدوى الفن و يطرح افكارا حول هموم الرواية اليمنية الا اذا كان هو نفسه العزي المثقف الذي يطمح إلى كتابةرواية و طالما كان الراوي ليس هو نفسه العزي المثقف فلماذا اذن ظهر جزء داخل الرواية يبدو و كانه استطلاع صحفي للمكان ( اثناء رحلة العزي من صنعاء إلى اب )و هو ما لا يحتاج الراوي لسرده داخل الرواية , و اذا كانت الرواية مستوعبة لكافة اشكال الخطاب اللغوي لكن ذلك الجزء بدا محشورا داخل السياق .
سواء كان المبرر المباشر للسرد داخل الرواية هو الحكي عن العزي أو حكي العزي فلماذا اذن لم يكن متوافقا تداخل الاصوات ضمن سياق الرواية ؟!
كان تبدل الصوت السارد في بعض المواضع غير مبرر فنيا و يتضح عدم انسجام الاصوات الساردة من خلال تطابق منظور السرد في كل الاصوات , المنظور الذي يحدد موقع الصوت داخل السرد حيث تغير الصوت من راو إلى انا ساردة لكن لم يتغير المنظور أو زاوية النظر نحو الاحداث , إلى جانب ان ترجمة الرواية إلى لغة اخرى ستكشف مدى الفجوة الحاصلة بين صوت و آخر .
ان القارىء أو المسرود له لم يلحظ اي مسافة بين زمن الحكي " الزمن الذي يحكي السارد من خلاله الحكاية " و زمن الاحداث باعتبار ان السارد – بناءا على الافتراض السابق نفسه- قد احاط بالظروف الخارجية و الوقائع المحيطة بملابسات مشروع الرواية , تلك المسافة التي تقاس بمقدار التوازي في الدلالة بين شخصية العزي و ظهور عناصر اخرى كالسارد المشارك و هذا يعزز فكرة ان الانا الساردة لا تتوافق في سردها مع وجود راو مشارك .

يجيد نص " تبادل الهزء " تقديم جملة سردية محكمة تتحقق فيها الثوابت الثلاثة للكتابة الخلاقة – بحسب هارولد بلوم – و هي : الروعة الجمالية و القوة المعرفية و الحكمة , فبناء الجملة في هذةالرواية يحتاج إلى دراسة مستفيضة لما يتوافر في البنية اللغوية من جماليات باهرة ترافقت مع كشف استبطاني ملفت للاعتمالات النفسية و الجزيئية جدا التي تمتع القارىء وهي تعرض له توصيفات جاهزة لمشاعر و احاسيس يعيها ولا يستطيع الافصاح عنها ,اعتمالات تنتاب المرء عادة و لا يجيد التقاطها ناهيك عن التعبير عنها , جملة تجيد التوصيف النافذ و الصياغة المفاهيمية لشواغل دقيقة و غاية في الكمون داخل الوعي و اللاوعي كما ان مسرحة شخوص الرواية و خصوصا شخصيات القرية قد اعطى الرواية حركية عالية سيظل القارىء يتذكرها كثيرا .
نجحت شخصية العزي من خلال الرواية في ان تضع نموذجا للمثقف اليمني فاصبح العزي شخصية مرئية و مجسدة تختزل العالم الداخلي للمثقف ضمن خصوصيته اليمنية , فالعزي على غرار سي السيد و زوربا - على سبيل المثال - نماذج بشرية قدمها الادب لتكون خالدة و قد اكتسبت حضورا حيا يتجاوز الوجود الفيزيائي بكثير,و هنا يقف العزي مرآة لليمني بوصفه مثقفا مواجها لكل تناقضات الواقع وتعقيداته امام المشروع و الممكن , في معركته مع الاستلاب و الاغتراب اللذان يتنازعانه و الثنائيات المتعارضة التي تهزه بعنف و تجره للخلف ليظل مرتهنا لبنى تقليديةخانقة و مستحكمة .
تحمل شخصية العزي في طياتها نموذج البطل الشعبي كنسق ثقافي مضمر , يتمثل ذلك في وصف العزي لنفسه كتحديد قاطع لهويته الحقيقية الكامنة خلف العزي المثقف , وهي الهوية الرافضة لصورة فتى الكاوبوي المختزنة من احلام المراهقة , يقول العزي في نبرة واضحة الدلالة :"ماناش راعي بقر أمريكي , انا العزي , مقطبه للركبة ,يسهر الليل منتشي,يعمل اللي براسه و لا هو داري من كم ! انا صاحب امرية , الفحل الوفي , جبهتي تعرق و انا راجع من شعبة القات و الرصاص برجالة مفرطة . بعدي يا شوحطة ! ص 72 " يظهر الوصف و هو يحرص على رسم تمثل بصري و كأنه انشاد ملحمي ,يحمل وقعا عاليا و كأنه زامل مكتظ بالفخر و الحماسة يصدر عن بطل محارب ,صديق الليل و مروض المخاوف ,الممتلىء بالرجولة و القسوة , و هو نموذج يضع نفسه كذروة عليا و خلاصة كاملة لقيم القبيلة ومنطق القوة . " يأخذ عشاءه من عشاء الذيب" تسترجع هذة الصورة الشعبية نموذج رجل البراري و الخلوات في صراعه مع الطبيعة ووحوشها بروح ضارية و لهذا التمثل تجلياته في الثقافة العربية كما نجد في المعلقات و الشعراء الصعاليك , التجسد الحي للقبيلي الحامل لقيم الفروسية و النبالة , المتعايش مع الخشونة والبداءة .
يجد القارىء نفسه في " تبادل الهزء" امام رواية يمنية خالصة يشم فيها رائحة الشذاب و روث المواشي و يستذوق طعم القات و الماء البارد و اجزم انها اكثر رواية يمنية منذ الالفية الجديدة استطاعت الغوص باقتدار و مقدرة ابداعية في تتبع انعكاسات التحولات السياسية و الاجتماعية و الثقافية على الوعي الجمعي للمجتمع اليمني ,مثلا لا حصرا تتبع الرواية التبدلات في الذاكرة البصرية داخل سياق زمني يمتد من الثمانينات و حتى مطلع الالفية و يظهر ذلك في استدعاء الغائر من مخزون تلك الذاكرة و ما خلقته وتخلقه تلك المرئيات من تمثلات في الوعي و المخيال لدينا عبر إلتقاطات بارعة لتفاصيل حاضرة في ذكريات كثير من اليمنيين ( حكايا الجدات "سمأة الديدة " , العلاقة مع التلفزيون و قصص جراندايزر و ريمي و فيتاليس ,السينما الشعبية والافلام الهندية , صورة فتي الكاوبوي في اعلان المارلبورو, ظهور القنوات الفضائية و ما تحويه من افلام اباحية بالتجاور مع فيلم نوعي كصمت الحملان ! ) فهي تمتح من مدونة جيل كامل من اليمنيين و هي لا تقوم بهذا السبر الراصد بشكل تعاقبي للاحداث أو وفق منطق تسلسلي بل بناءا على افتراض ضمني يسوق الذاكرة باستحضارها للماضي مع الحاضر ككتلة واحدة تسير في حركة بندولية حيث الماضي و الحاضر يتبادلان المواقع , و اذا كان وعي " العزي " قد ارتد إلى الوراء , ان قبلنا بكون ما فعله ارتدادا , فان الذاكرة ليست هنا كمبرر لهذا الارتداد بل انها تحضر كمنطلق لعوالم محتملة مفتوحة يمكنها توجيه مصير الذات المسرودة نحو ممكنات متعددة .

زر الذهاب إلى الأعلى