[esi views ttl="1"]

عزَّافُ الأسى

بعد أن غربتِ الشمسُ، وغاضتْ مياهُ النهر، ماذا بقيَ لنحتفلَ بظلامنا ونحتفي بموتنا؟
يا للعارِ! كيف استطعنا أن نبدّد ضوء تلك الينابيع التي تومئ لنا بينما نحن ندير رؤوسنا ونُقفلُ راجعين صوب آكام القسوة ودوربِ النسيان.

لا بدّ من أن أعترف – بين يَدَي هذا الديوان – بالشعور بوجلٍ وخجلٍ تصعبُ مواراتهما:
الوجل؛ لأن عالَمَ (عزّافِ الأسى.. عابرِ سبيل) تجلّى لي عوالِمَ رحبةً، هائلةً، وساحرة، على المستويين الإبداعي والإنساني، وتكشّف هذا العالَمُ عن آفاقِ رحلةٍ في بحرٍ بلا ضفاف، زاخرٍ بزبدِ الدهشة، وروعةِ الاكتشاف.

والخجل؛ لأن تساؤلاً مُمضّاً أقضَّ هجعةَ الرضى، وأيقظَ أسِنّة اللَّظى.. هل كان لا بدّ أن ينطفئ قلبُ البردُّوني كي ندرك َكم كنّا مفعَمِين باللاّمبالاة، مترَعِين بالأوهام!

ربما شعرت – بعد تأمّل وتمعّنٍ – أنّ الكلَّ أدار رأسَهُ وأغلقَ أذنيه (لعزّاف الأسى) كلٌّ بطريقته:
بعضهم أدار رأسه دورةً كاملةً ، وربما بغضب ، وآخر أدار رأسه نصفَ دورةٍ وبلا اهتمام ، وثالثٌ نظر شزراً ومضى.
وفي هذه البلاد فإن النظر شزراً قد يكون طريقةً للتعبير عن الحب والصداقة والاكتشاف!

رُبما أحاط بعضٌ رابعٌ بعزَّاف الأسى، عابر السبيل، مستمتعاً بعزفه، متحلّقاً حول أحزانه، واهماً أنه قريبٌ منه.. لكنّ هذا البعضَ كان ينظرُ ولا يرى، ويسمعُ ولا يعي، وربّما ضحك وسخِرَ بينما عزّافُ الأسى يحسو بكاءه ويستفُّ خيباته وأشجانه.

قِلّةٌ أحاطت به عن قرب، وأصاختِ الفؤادَ، وأرهفتِ الروحَ لنشيدِ العازفِ ونشيجِه. ومن المؤكّد أنها كانت بعضَ عزائِه. لكنها تشعرُ بحسرةٍ ما، ربما لأنها لم تستطع أن تغيّر من أحواله ولو قليلاً وبما يُسعدُ قلبَه، ويُفرحُ رُوحَه.

هل أكونُ صريحاً؟.. ربما شعرتُ أنَّ الجميعَ مترعٌ بالحسرةِ، حسرةِ ما بعد غروبِ الشّمس.. حسرةِ ما بعد فواتِ الأوان.

هل يشعر أحدٌ ما في هذه البلادِ أنّه خفّفَ من عذاباتِ عزَّاف الأسى وبما يُسعدُ قلبَ شاعرٍ كفيف ووحيد وبما يُفرحُ روحَه؟
إنني أُهنّئُ كلَّ من لا يَشعرُ بالحسرة!

***

كانَ يَبدو كصائمٍ ما تعشَّى
الملايينُ فيه، جوعى وعطشى

أثَّثَ القلبَ للعراةِ ويُحكى
أنه ما أذاق جنبَيْهِ فَرْشا

***

وحدي.. نعم كالبحرِ وحدي
منِّي، ولِيْ جَزري وَمدّي

وحدي وآلاف الرُّبا
فوقي، وكلُّ الدّهر عِندي

***

لم يكن البردُّوني مجردَ (عابر سبيلٍ) في حياتِنا، ولن يكون. وبالنسبة لليمن، فإنّه شاعرُ كلِّ العُصُورِ. إنّه شاعرُ الألفِ عاماً الماضيةِ على الأقل، وأحسب أنّ زمناً طويلاً سيمرُّ قبل أن تعرفَ اليمنُ شاعراً آخر يمكن أن يرتقي هذه الذّرى التي حلّقَ البردُّوني في أجوائها، وقد كانت ذرىًً صعبةً مستحيلةً على المستويين الإبداعي والإنساني.

إنَّ ما يُحزِنُ حَقاً أنّ الضّوءَ لم يُلقَ بما فيه الكفاية على تجربته الإبداعية، والأكثر مدعاةً للحزنِ أنّ الاهتمام ينصبُّ في العادةِ – وفي اليمن على وجه التحديد – على تأويلاتٍ مُباشِرةٍ لقصائدَ وربما لأبياتٍ ومواقفَ أو حتى لرأيٍ عابرٍ في ظرفٍ عابر.

وفي هذا الموضع رُبما وجبت الإشارة إلى أنه ليس خطأً اهتمام بعض المثقفين بقضايا كهذه أو بمواقفَ معينة للشاعر الكبير، ولكنّ الخطأ بل الخطيئة – في ظني – هو التركيز عليها فقط، وتلخيص حياة ثريةٍ ضخمةٍ كحياة البردُّوني وقامةٍ إبداعية سامقة كقامته في موقفٍ ما.. أو رأيٍ ما.. في ظرفٍ ما!

وفي سنواته الأخيرة، فإن هذه النوعية من الاهتمام البليد والقاسي بما يكتبه البردُّوني من آراء وهو يقترب من الثمانين عاماً أوشكت أن تغمر شمسَ روحه المشعّة، وتطمرَ سنا هذه الشخصية الفذّة، وألَقَ إبداعها المعجز، وللأسف، فإن ذلك لم يكن إلا من فعل بعض النقاد بحسن نيّة أحياناً، وبسوئها في أحيانٍ أُخرى، وبرعونةٍ وجهلٍ في معظم الأحيان.

***

وإذا كانت التجربة الإبداعية للبردُّوني لم تَلقَ اهتماماً كافياً، أو حتى عاديّاً، وإذا كان ذلك محزناً – وهو مُحزنٌ بحق – فإن تجربته الإنسانية الفريدة – وهي تعانق تجربته الإبداعية – لم تَلْقَ اهتماماً من أيِّ نوعٍ على الإطلاق.

وعند تأمّل تفاصيل هذه التجربة الإنسانية، وملامح هذه الشّخصية، لا تستطيع إلا أن تعجبَ وتتساءل.. كيف استطاعت وردةٌ أن تطفح بالحياة، وأن تشرقَ بالأملِ، بين صخور القسوة، وفي قيعان اليأس ووسط بيئةٍ، زهرُ أشجارِها شوكٌ، وأجملُ أيكِها طلحٌ عنيد، يُسقى بالريح ويتيهُ باليباس.

المفارقةُ أنّ صخورَ القسوة وقيعان اليأس هذه تُنبت أحلى عنبٍ تعرفه الدُّنيا ! تماماً مثلما أنبتت درّةَ الشعر الخالدة وقيثارته العذبة (عبد الله البردُّوني) في وسطٍ اجتماعيٍ وظرفٍ تاريخيٍ غير مُواتٍ وأسرة فلاّحة بسيطة لم تعرف قلماً أو كتاباً ربما لمئاتٍ خَلَتْ من السنين. إنها عبقرية اليمن الخاصة، ومفارقاتها اللافتة !

***

أَقولُ مَاذا يَا ضُحَى، يا غُرُوبْ؟
في القلبِ شَوقٌ غيرُ ما في القلوبْ

في القلبِ غيرُ البُغض غيْرُ الهوى
فكيفَ أَحْكِي يا ضَجِيجَ الدروبْ

لِمْ لايَذوبُ القلبُ مِمّا بِه
كم ذابَ.. لكنْ فيهِ ما لا يَذوبْ

***

عند تأمّلِ حياة البردُّوني (الإنسان) يتكشّفُ جانبٌ مغمورٌ لكنّه مُضيءٌ كبرقٍ، ومطمورٌ لكنّه سامقٌ كأُفُق، وهيهات أن تطمح عصورٌ من الشعر والشعراء إلى التحليق في سماواته الرّحبة، وأجوائه الإنسانية العذبةِ والمعذِّبة في آنٍ!

تأمّل مَعي – أيّها القارئ العزيز – نُتَفاً صغيرةً من رِيْشِ هذا الطائر الضّخم. مُجرّد نُتفِ ريشٍ يُبهرُنا بهاؤها، ويغسِلُنا ضوؤها وتسحرنا نَمنماتُ ألوانِها.

كان البردُّوني محبّاً لوطنه متشرّباً معاناةِ شعبِه، ولذلك فإنه كان يدفعُ من قُوْتِهِ الخاص أثمان دواوينهِ وكتبِه، ليتمَّ بيعُها للجمهورِ بأقلّ من سعرِ التكلفة، وفي أحيانٍ كثيرةٍ بأثمان زهيدة لا تكاد تُذكر.
وأحسبُ أنّ نواصي الشوارع وتقاطعاتِها بصنعاء شهدت ولسنواتٍ طويلة هذه الظاهرة وما تزال.

إنها ظاهرةٌ فريدةٌ لشاعرٍ فريد يعرفها كلّ أبناء اليمن ويعرفها أكثر أطفالٌ وفتيانٌ فقراء عاش مُعظَمُهم ويعيش على ريعِ هذه الكتب وبيعها في الشوارع وتقاطع إشاراتها.

***

مُذْ بدأنا الشَّوطَ جوهَرْنا الحصى
بالدّم الغالي وفَرْدَسْْنا الرِّمالْ

واتَّقدنا في حشا الأرضِ هوىً
وتحوَّلْنا حُقولاً وتلالْ

مِن روابي لَحْمِنا هذي الرُّبا
من رُبا أعظُمِنا هذي الجبالْ

***

وما تزال كتبُ (البردُّوني) ودواوينُهُ هي الوحيدة – من بين الكتب جميعِها – التي تحملها أكُفُّ هؤلاء الأطفال والفتيان الفقراء من البائعين المتجوِّلين! ربما لا يعرفُ هؤلاء الأطفالُ والفتيانُ أنّ شاعراً كفيفاً، فقيراً تجاوَزَ السّبعينَ من عُمُرِه، أصرَّ على دفع كلِّ ما يملك بما في ذلك القيمة الماليّة لجائزةٍ عربية – أكبر مبلغ حصل عليه في حياته – لناشري كتبِه ودواوينِه بهدفِ بيع هذه الكتب والدّواوين للجمهور بنصف التّكلفة وبرُبعِها أيضاً.!

هل عرف ذلك الفتى المتجوّلُ بائعُ الكُتب على ناصية الشّارع أنّ ثمّة فتىً آخر كفيفاً وفقيراً وغريباً كان قد قدِمَ من قريته (البردُّون) ذات يوم قبل ما يقرب من ستين عاماً إلى المدينة ليتعلّم في مدرستها الشهيرة، وأنّه وبعد عصر يومٍ مكفهرٍّ بالغربةِ والجوع، والوحشةِ، شعر أنّه بحاجةٍ ملحّةٍ إلى ما يمكن أن يَسدّ رَمَقه، ويَسند قامته المتهاوية، وأن ذلك الفتى الغريب الكفيف وهو في حَيرته البائسة لم يجد إلاّ ثُلَّة من صبيةٍ رفعوا عقيرتهم بالسخرية منه وملاحقته بالشتائم.. والحجارة أيضاً!
ولم يحمِهِ من أذيّتهم إلا قُبّةُ سبيلٍ مهجورة عند أطراف المدينة دخلها متعثراً داميَ الروح والوجه والكف.

وعندما حاصره الصّبية ممعنين في أذيّتهم خطر له أن يخيفهم بأن بدأ بإطلاق أصواتٍ مرعبةٍ تنطق بأسماء العفاريت!

ومن داخل القبّة المهجورةِ أطلقَ لصوتِهِ العنان حتى فرّ الصّبْيََةُ المحاصرون له؛ واهمين أنّ العفاريتَ سَتخرجُ عليهم من تلك القبّةِ النائيةِ عندَ أطراف المدينة.

ويمرّ الوقتُ بطيئاً، ثقيلاً على الفتى المختبئ في قبّة النجاة تلك، حتى تأكّد من ذهاب الصّبية. تحسّس بكفيه المرتعشتين طريقه وخرجَ في هجير تلك الساعة اللافحة بعذاباتها، اللاهبة بأحزانها، واتجه صوب (مقشامة)(*) يَعرِف أنها في نهاية الشارع الترابي.
تأرجح بهامته بينما يداه تترنحان في الهواء وخطواته تئنّ على الثّرى المتلبّدِ باللامبالاة، وثمَّةَ عيونٌ متبلّدة تمرُّ بِه بلا فضول، وتتجاوزه بلا سؤال.

***

هل هُنا أو هناك غيرُ جذوعٍ
غير طينٍ يضجُّ، يعدو ويقعي

لو عَبَرتُ الطريقَ عريانَ أبكي
وأُنادي، من ذا يَعي أو يُوَعّي

يا فتى، يا رجالُ، يا...يا... وأنسَى
في دويِّ الفراغِ صوتي وسمعي

***

وللهفته وجوعه، وخوفه، فإنه نسي أنَّ (المقشامة) مسوّرةٌ بسُورٍ طينيٍّ عالٍ، ولم يُدرك مدى ارتفاع السّور إلا بعد ارتطام وجهه وكفيه به.
يا لوجهه الذي فعلَتْ به النّدوبُ والجروحُ ما لم يستطع أن يفعله مرضُ الجدَري بكل جبروته وفتكه.!
تحسّس الفتى الكفيفُ السورَ بكفيه واعتمدَ عليهما ليجلس على حافّة السّور متهيّئاً للقفز إلى داخل (مقشامة الفجل والبصل) !
أمّا كيف استطاع أن يصعد إلى أعلى السّور وكيف واتته قُواهُ الواهنة فإنّه لا يعرفُ كيف فعلها؟!
يا لجوع الساعة الخامسة قبل الغروب، ويا لرائحة الفجل والبصل في هذه الساعة!
إنه يدرك الآن خطورَةَ بقائِه على حافّةِ السّورِ متردّداً في القفز إلى الداخل، فما أسهل أن يلمحه عابرٌ ما من شياطين الإنس، أو كلبٌ ما من كلاب الشارع الضالة.

همَّ بالقفز لكنه أحجم بغتةً.. فقد تذكّرَ أنّه وإن كان قد عرف قدرَ ارتفاعِ السّورِ من الشارعِ وصعد سالماً، فإنّه لا يعرفُ قدرَ ارتفاعِهِ من الداخل! فربما أن هاويةً ستبتلعه فور أن يقفز! وحتى ولو سَلِمَتْ حياته فإنّ كَسْر إحدى قدميه أو كلتيهما أمرٌ وارد.. ثم ما أدراه إن كانت هناك صخرةٌ ما تقف بالمرصاد أسفل السّور لتلتقف جسده الواهن إن هو قفز؟!

شعر بغثيانٍ له طعمُ الهباء، لعن اليومَ الذي غادرَ فيه قريته. تحسّس بكفيه المذعورتين السّورَ باحثاً عن حصياتٍ صغيرة بدأ بقذفها تحته، مصغياً بِروحِه وأذنيه، وبكلِّ مَسامِ جسمِه إلى وقعها محاولاً أن يُقدّر المسافة إثرَ كلّ حصاة مقذوفةٍ إلى الأسفل.

قدّر الفتى أنَّ ارتفاعَ السّور الطينيّ الأملس من الداخل أعلى قليلاً من ارتفاعه من الخارج، وهمّ بالقفز – بعد أن تشهّد وأشْهد! وقفزَ أخيراً كمن يقفز في لُجّة ظلام أو هاوية بئر. ومثلما استوى على ذروة السّور وهو لا يعرف كيف استطاع ذلك، فإنه قام فور ارتطامِ جسدِه بالأرض – قريباً من البصل والفجل وهو لا يعرف كيف نَهضَ من وقْعَتِه المغامرة وهو أكثر حماساً وربما اندفاعاً صوب وجبته المشتهاة قبل غروب شمس ذلك اليوم الجائع البائس.

يا لِلذّة الوجبة، طعماً ورائحَة! هل عليه أن يملأ جيوبه أيضاً ! على عجل، بدأ بملء جيوبهِ بعد أن ملأ معدته. لكنّ يداً ضخمةً عاجلته فجأةً بضربةٍ في رأسه، وألحقتها بأخرى
في كتفه، ثم انهمر سيلٌ من الشتائم قبل أن يُمسك صاحبُ (البصل والفجل) بتلابيبه ويُجرْجِرهُ جرجرةً هي إلى السّحب أقرب، صوبَ مكانٍ مظلمٍ خاص بالبهائم، بينما الفتى الكفيف صامتٌ مستسلمٌ بعد أن دهمته المفاجأة.. وأخرسته كفّ (القشّام) الشبيهة بالمجرفة.

مع اقتراب أذان المغرب فُتحت الزريبة المظلمة، ومرةً أخرى انهمر سيلٌ من الشتائم على رأس الفتى، الذي قُذف به أخيراً في الشارع. ورغم خجله، وفزعه، إلا انه حمد الله أنّ المغامرة انتهت عند هذا الحد.. ثم إنّه قد شبع قليلاً!

وهبَّ ماشياً متعثّرَ الخطى مرتطماً بالمارّة وهم في طريقهم إلى المسجد، وتفضّل أحدُهم وقاده صوب المسجد دون أن يسأله حتى عن سبب الخدوش الظاهرة في وجهِهِ وكفيه..

***

المسافاتُ مَعِي تَمْشي، إلى
رُكْبَتِي تَأتي، ومن ساقي تُغادرْ

مِن هُنا، مِنْ نِصْفِ وَجْهي، وإلى
نصفِ وجهي سائرٌ، والدربُ سائرْ

***

وفي المسجد وأثناء قيامه بالوضوء استعداداً للصلاة حدث له ما لم يخطر على باله أو على بال المدينة برمّتها! بل إنه شعرَ أنّ كل ما لحقه من إهاناتٍ وآلام في ذلك اليوم الأسود لا يُساوي آلام هذه اللحظات الرهيبة في المسجد.

فقد حدث أثناء قيامه بالوضوء وفي وسطِ بِركةِ ماءٍ صغيرة أن فاجأه أحدُهم بالضرب !.
كان الضّربُ مؤلماً وقاسياً. لكنّ الأقسى والأكثر إيلاماً أن الفتى الكفيف لم يكن يعرف من أيّ اتجاه تأتيه اللطمةُ تلو اللطمة، ولسوء حظّه فإنه لم يستطع أن يتقي ولو لطمةً واحدة!
ولعلّه ردّ: ملعونٌ أبو الشعر في هذه البلاد.. ملعونٌ أبو الهجاء.
كان اللاّطم من أعيان المدينة وأثريائها، وكان الفتى المغتربُ قد هجاه ببضعة أبياتٍ قبل بضعة أيامٍ، ولعلّ الرجل وقد رآه أمامه فجأةً في المسجد لم يتمالك نفسه، فانقضّ عليه دون وازعٍ من شفقة أو رحمة. ولعلّ الرجل أحسّ بالنّدم بعد أن أشبع الكفيف ضرباً، ولعلّ نظرات المصلّين أصْلته بوابلٍ من عَتَبٍ أو استهجانٍ، فأعطى الفتى الكفيفَ خمسة
ريالات فضيّة على الفور، وقبل أن يُكمل وضوءَه.

كانت فرحةُ الفتى بالريالات الخمسة كبيرةً، أكبر من آلامه، وأكثر من أحزانه في ذلك اليوم! وظل لسنواتٍ طويلة يتذكّر بحبوحة العيش التي عاشها لأسابيع بكنزه الصغير.. الريالات الخمسة!

كان ذلك مجرّدَ يومٍ أو نصفَ يومٍ من أيام صبا البردُّوني وشبابه! ولم تكن أيامه وسنواته الأُوَلُ في العاصمة أفضلَ حالاً..، فالديْوان الأوّل والذي كان قد صدَرَ قبل الثورة بفترة وجيزة تَقطُرُ قصائدُه أسىً وأبياتُه غربةً وأحزاناً يصعُبُ التَّجوالُ في حنايا آلامها وثنايا عذاباتها.

***

هو الشرُّ مِلءُ الأرضِ والشرُّ طَبعُها
هو الشرُّ مِلءُ الأمْسِ واليومِ والغدِ

وهذَا غُبارُ الأرضِ آهاتُ خُيّبٍ
وهذا الحصى حَبَّاتُ دَمعٍ مُجمَّدِ

***

يستطيع أن يكتشف المتأمِّلُ للديوان الأول عبقريةً شعريةً فريدةً، وجديدةً توشكُ أن تَهلَّ بضوئها على المشهد الشعري اليمني والعربي، وسوف تَتَكشّفُ له من خلال ذلك رُوحٌ غامرةٌ بالحب، ناضحةٌ بالعطف والحنان، تأسى لأحوال ناسها، وأبناء مدينتها بينما هي في أمسِّ الحاجة إلى لمسةِ مواساةٍ أو همسةِ مَحبّة.

إنَّ هذه الميزة هي ذروةُ ذُرى الشاعر ذي القلب الكبير والحسّ المرهَف، والإحساس الشفيف بآلامِ البيوت والتوجّعِ لأنينها، في أزقّة المدينة البائسة اليائسة، بينما هو يمشي هائمَ الخطو، ساهمَ الروح، واجفَ القلب، تائهَ الأصابع، راجفَ القدم، متلمّساً ضوءَ ابتسامةٍ في ظلامِ نهارِه، أو يداً حانيةً في وحشةِ ليلهِ.

ورغمَ معاناته الطويلة وعذاباته المستديمة، لم يفقد البردُّوني وفاءه وحبّه لأبناء شعبِه، وتحسُّسَه لأحوالهم وإحساسَه بأتراحهم طوال حياته.
تقول ذلك قصائدُهُ، بل دواوينُهُ جميعُها، وتقول ذلك مؤسّساتُ الدولة، وأروقةُ وزاراتها التي كان يؤمُّها – فقط – مراجعاً لأديبٍ ريفي شاب، أو لطالبٍ مُغتربٍ يبحث عن وظيفة، أو لسياسيٍّ مُلاحَقٍ هارب! وكان يقوم بذلك بحماس، وهو الذي لم تفترسهُ غوايةُ حزبٍ، أو غوائلُ رؤيةٍ سياسيةٍ لفردٍ أو جماعة.

كان الناسُ وطنَه ، وسُباتُهم أرقَه ، وكانت آمالُهم حزبَه، وأحلامُهم قضيَّتَه، وأنّاتُهم جُرحَه.

برعشة كفيهِ التي أرعشَت دهوراً، أجفلتْ جبالُ نسيانٍ، وتململتْ رقدةُ أزمان.
ببصيرتِه أضاءت بلادٌ ، وبأحزانِ جفنيه أشرقتْ وهادٌ، وبضوء أصابعه أسرجَ شعبٌ عزمَهُ، وفتَّقَ جيلٌ حُلْمَه، وشقَّ فجرٌ دربَه.

كان خُلاصةَ بلد، آهةَ عصور، عبقريَّةَ مكان، وردةَ قِفارِ يباس،.. ندى صخورِ صبرٍ واصطِبار.

زر الذهاب إلى الأعلى