[esi views ttl="1"]

السمّ في الدسم

لحسن الحظ، أنَّ الذين يثيرون عاصفة من الانتقادات في وجه "بي بي سي" (المحلية خصوصاً)، بسبب تغطيتها المنحازة (غالباً) إلى إسرائيل، ليسوا عرباً. هذه المرة، الذين فعلوا ذلك، بالفم الملآن، وعلى رؤوس الأشهاد، أكاديميون مرموقون، سياسيون رفيعون، صحافيون لهم حيثيتهم، جمعيات خيرية بريطانية، مواطنون متبرمون... إلخ.

هناك قائمة تجاوزت أربعين ألف توقيع، مرفقة برسالة حازمة، وجِّهت إلى إدارة "بي بي سي"، تحضّها على التزام المعايير المهنية حيال "الطرفين" الإسرائيلي والفلسطيني، والتعامل معهما بالمسطرة ذاتها.

يكفي أن نذكر بضعة أسماء من الموقعين على الرسالة، لنعرف مدى الاهتمام الذي يوليه كثيرون لهذه القضية، البالغة الحساسية: تشومسكي، أليس ووكر، آفي شلايم، برايتن برايتنباخ، كين لوتش، جون بليجر، آلن بابيه، سير بيتر بوتملي، جيرمي كوربين، جلبير أشقر.

كم مرة تعالت شكاوانا من انحياز وسائل الإعلام البريطانية، عموماً، لصالح الخطاب الإسرائيلي؟ آلاف المرات. ولكن، لم يتغير أداء هذا الإعلام، في الموضوع الفلسطيني، كثيراً. السبب معروف. في الواقع، هناك أكثر من سبب، لكن الأبرز هو النفوذ اليهودي التاريخي في الحياة البريطانية، المنسجم، إلى حد كبير، مع مواقف الحكومات البريطانية المتعاقبة، عماليةً كانت أم محافظة، في خصوص القضية الفلسطينية.

دعونا نتحلى بشيء من الحس التاريخي! دعونا نتذكر! "صُنع" إسرائيل وزرعها كياناً في قلب العالم العربي، لم يكونا ممكنين لولا بريطانيا. ولم يكن ممكناً لهذا السرطان أن ينشب في الجسم العربي، لولا الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس. إسرائيل، بهذا المعنى، صناعة بريطانية صرف.

في لندن، وليس في أي عاصمة أخرى، صدر "الوعد التاريخي" بقيام دولة إسرائيل. ثم انتقلت رعاية هذا الوعد المشؤوم من لندن إلى واشنطن. قد يبدو هذا الكلام مجرد استعادة لدرس تاريخي، إنه فعلاً كذلك. لكن، ليس المقصود منه العودة إلى صفحات التاريخ، بقدر ما هو محاولة لقول إن هذا "التاريخ" لم يتغير كثيراً، على مدار ما يقرب من قرن، فالتاريخ، بهذا المعنى، ليس كتباً انطوت صفحاتها، ولا هو أرشيف على رفوف مُغبرَّة. إنه فعل متواصل. نحن، فقط، من ينسى التواريخ، وكيف تواصل اشتغالها في الواقع.

نعرف أن "بي بي سي" تفخر ب "حيادها" المهني. تلك أسطورتها. لكن فحص تلك الأسطورة مليّاً يظهر زيف ادعائها. لم تكن "بي بي سي" محايدة في موضوع فلسطين قط. هناك دراسة شهيرة أعدت في جامعة بريطانية، قبل أعوام، تظهر أن انحياز التغطية الإعلامية للموضوع الفلسطيني في "بي بي سي" لصالح اسرائيل يتجاوز ثمانين بالمئة من المادة المبثوثة. الانحياز، هنا، ليس على الطريقة العربية الزاعقة، بل إنه مثل دسّ السُمّ في الدسم. نعرف، نحن الذين نشتغل في الإعلام، أن البدء بخبر عن إطلاق صواريخ لحماس على مستوطنة إسرائيلية، يعقبه قصف إسرائيلي لغزة يصنع ترتيباً معيناً في ذهن المستمع (أو المشاهد)، بصرف النظر عن التسلسل التاريخي للأحداث، وعمّا أوقعته صواريخ "حماس" من قتلى أو جرحى في الجانب الإسرائيلي، وما أوقعه القصف الإسرائيلي في الجانب الفلسطيني.

الانطباع الذي يرسخ في ذهن من يتلقى هذا الخبر أن صواريخ "حماس" موجهة ضد مدنيين، فيما يطال القصف الإسرائيلي مطلقي الصواريخ. كما أن اقتران وصف "حماس" بالتنظيم الإسلامي المتشدّد، وعدم إلحاق كلمة إسرائيل بأي وصف أو نعت، يعني أن دولة ما عادية جداً اسمها إسرائيل تعاني من التشدد الإسلامي. وهذا يحيل في ذهن المستمع، أو المشاهد الغربي، اليوم، إلى "القاعدة"، بل أسوأ: داعش. لا تصف "بي بي سي" حركة "حماس" بالإرهاب. ولكن، عندما تقرنها، كل مرة تُذكر، بالتشدد، فهي تصفها به بطريقة غير مباشرة. هذا عمل، كما نعلم، يشتغل على زرع الموقف في اللاوعي. في البنية النفسية لمن يستمع إلى الخبر أو يقرأه.

مجرد المقارنة بين "طرفين" و"قوتين" و"صاروخين"، من دون إيضاح الفارق، هو انحياز للعدوان الإجرامي على غزة. هذه ليست حيدة، فليس هناك حياد في حاجة المدنيين إلى الدواء والغذاء والماء. ليس هناك حياد في حاجة الناس إلى فتح معابر لمرور مواد الإغاثة. ليس هناك حياد في حاجة المدنيين إلى أمكنة إيواء. ليس هناك حياد في إفناء عائلاتٍ بكل أفرادها.

لو قامت "بي بي سي" بإحصاء بسيط لعدد القتلى، في "الطرفين"، لوجدت أن نسبة القتلى الإسرائيليين، وكلهم جنود، هي، تقريباً، واحد إلى مئة: يعني إسرائيلي واحد مقابل مئة فلسطيني!

هل ينعكس ذلك، لغةً وخبراً وتحقيقاً وصورةً في المادة التي تقدمها "بي بي سي" إلى مشاهدها البريطاني؟
كلا.

وعلى هذا نحتجُّ.

زر الذهاب إلى الأعلى