[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

الانفصال.. وهم في الجنوب وحقيقة في صعدة!!

تتعامل السلطات اليمنية بحزم أمني وعسكري واضح فيما يتعلق بالاحتجاجات السلمية المطلبية الوجيهة في المحافظات الجنوبية التي ترفع بعضها شعارات غاضبة تدعو إلى العودة إلى ما قبل 90. دون أن تتقدم هذه السلطات خطوة جوهرية واحدة في حلحلة المطالب وإزالة المظالم.. ودون أن يكون هناك مبررات ملموسة للتعامل الأمني والعسكري مع تلك الاحتجاجات، لأنها احتجاجات سلمية التي لا تمتلك جيوب تمرد ولا أسلحة ولا خنادق ولم تخض مع الأجهزة السلطوية مواجهة واحدة وليس لدى الحراك مكون أيديولوجي تعبوي متطرف ولا راع إقليمي مغامر..

في المقابل تنسحب القوات الحكومية من صعدة بعد كل مواجهة مع عناصر التمرد الحوثي الذي اندلع قبل خمس سنوات بدون مطالب وجيهة مستخدماً العنف والاغتيالات ورافعاً شعار عمالة الدولة لأمريكا واسرائيل ولديه برنامج فكري ومذهبي متطرف وداعم إقليمي خطير..

وحاليا لم يبق إلا إعلان مسمى دولة الحوثيين في صعدة لأنهم في حقيقة الأمر هم من يدير الأمور في صعدة ويصدر توجيهاته للمرافق الحكومية منذ 17/7/2008م كما يقوم بعمليات شراء واسعة لعقارات (ميدي) التي تصلح كميناء لدولة المتمردين!!

الحوثيون.. واقع الحكم الذاتي وأحلام الدولة

بعد اتفاق "هبرة-الإرياني" مطلع فبراير 2008 بين الحكومة والمتمردين في صعدة بدأت احتجاجات الجنوب في التخلي التدريجي عن النضال السلمي والبدء التدريجي في الشغب ثم إعلان الرئيس إيقاف الحرب 17/7/2008. ذلك أنه بدا لكل ذي مظلمة في بلاد اليمن أن الدولة "حق صميل" وأن العنف وحده يمكن أن يثمر، ويخرج الناس إلى طريق.

كيف لا؟ وقد استطاع أتباع الحوثي انتزاع ما يشبه الحكم الذاتي غير المعلن وهم ليسوا ذوي مظلمة ولا هم أصحاب مطلب وجيه.. ألم يتحرك المتمردون لتصفية حساباتهم الآن مع الأهالي وكأنهم دولة كما فعلوا مع أبناء "آل نحتان" في آل سالم وآل الحماطي وآل زبيدة؟! وقبلها أشعلوا سماء صعدة برصاص البهجة بالنصر على مرأى ومسمع من كل أبناء صعدة الذين غالبيتهم ضد الحوثي؟ وعلى مسمع أبناء القوات المسلحة الذين قدموا التضحيات وحاولوا أداء واجبهم بكل تفانٍ ولم يدخلوا كشوف تعويضات الدوحة البالغة 525 مليون دولار تصرف بنظر ممثل الحوثي الذي يوقع على ورقة التعويض سواء كان من الطرف الذي كان مع التمرد أو الذي وقف ضده..

أحداث صعدة مجرد سيناريو يراد تعميمه على المنطقة بطريقة تجعل العربان والمسلمين يتطاحنون في ما بينهم طائفياً وسلالياً ولكن من دون الخسارة المادية التي تكبدتها الولايات المتحدة في العراق.. إنه مشروع يتجاسر كل يوم ويعرف جيداً كيف يناور، وكيف يغادر، وكيف يستفيد من الهدنة، وكيف يوظف الشائعات التي تمهد للنكث وتأذن بجولة أخرى من الدماء..

ومعلوم أن هولاء المتمردين لو كانوا شرذمة قليلة لما استمرت الحرب 5 سنوات ولما وصلت إلى التدويل (غير المدان من أحد) ولما حصد المتمردون كل هذه المزايا وحصد الشعب كل هذه الحيرة والسلبية والغموض. مع أن الأمر أوضح من عين الشمس... قبل 18 عاماً بدأت هذه الحركة في اعتمالها العسكري المعبأ بالضغينة ويومها أنشد أحد شعراء صعدة:
فتنة على شان العبادة ... اسبابها شيعة وسادة
وإمامها ابن الوزير ... والعاصمة ضحيان.

العام قبل الماضي التقيت هذا الشاعر في إحدى مديريات صعدة الذي أكمل الآه الحزينة منشداً: قلنا لكم من عام تسعين.. وعموماً فإن خيوط المتراجحة الصعدية لا زالت تؤدي وفق أبسط مبادئ "الجبر السياسي" إلى تفسير واحد فقط: هو أن السلطات الرسمية تخوض مع بعض المتعصبين لأسرة حكم سابق والمدعومين من قوة إقليمية مغامرة تخوض "سباق سيطرة على الأرض" خشية تكرار السيناريو الإمامي المعهود عبر القرون والذي يراد له هذه المرة أن يكون سواء كجمهوري على النمط الإيراني أو ملكية على النمط الحميدي.. لكن السيطرة على الحكم هذه المرة ليست هدفاً وحيداً إذ يبدو المخطط شاسعاً وفي غاية الجنون!!

والسيناريو التمزيقي الرامي لإنشاء دولة للمتمردين واضح في غاية البساطة لكنه مع ذلك في غاية الخطورة. ومضمون (السيناريو) ما يلي:في هذه الأيام أجدني مدعواً لاستحضار تحذير كنت قد تحدثت عنه قبل عامين وهو الآن يتضح من جديد..

يستميت المتمردون في الحيلولة دون تقدم القوات الحكومية إلى المناطق والمديريات الواقعة تحت سيطرتهم مع السعي للحصول على مناطق أخرى في قبضة الجيش مع الحديث المتكرر عن الاضطهاد والتطهير ومن ثم ومع أقرب فرصة زمنية مواتية (وهي تقريباً فترة انتقال الحكم في صنعاء لمن يخلف الرئيس الحالي علي عبدالله صالح) يعلنون قيام دولتهم على رقعة الأرض التي يسيطرون عليها في صعدة وأجزاء خالية من محافظة الجوف لتعلن بعد دقائق كل من إيران، العراق المحتلة، ليبيا اعترافها بالدولة الجديدة وستقرن إيران هذا الاعتراف بالإعلان عن إبرام معاهدة دفاع مشترك مع الدولة الجديدة يغدو بموجبه أي هجوم "يمني" على مناطق "دولة الحوثيين" موجباً للتدخل الإيراني دفاعاً عن الدولة الإسلامية الجديدة المحاطة بالأعداء!! ما يقود بالتالي إلى أحد احتمالين:-

إما الزحف الحكومي وبشدة نحو مناطق المتمردين وبالتالي تصبح أزمة الحوثي هي شرارة الحرب في المنطقة بين أكثر من دولة وهو ما ستفكر اليمن به ملياً قبل التسبب في إشعاله.خاصة تحت ضغوط متوقعة من قبل الأشقاء والأصدقاء والأسرة الدولية وكذا صعوبة الأمر بعد التقارب الإيراني الأمريكي. وصدمة الداخل.- وإما التهدئة والرضوخ للأمر الواقع مؤقتاً مع تفعيل حثيث للدبلوماسية وحشد الاصطفاف الدولي لدحر المحاولة الإنفصالية.

وفي كلا الحالين فإن المتمردين ومن ورائهم إيران يكونون قد كسبوا الكثير ورفعوا من سقف مطالبهم غير أن فرضية التراجع عن اقامة الدولة الإنفصالية بعد إعلانها يبدو أمراً مستبعداً للغاية من قبل إيران والمتمردين وذلك للأسباب والمعطيات التالية:

أولاً: من الناحية التأريخية:أساساً؛ لا يبدو مثل هذا الإنفصال أمراً غريباً بل هو المقدمة المتكررة لاستعادة الإمامة مقاليد الحكم في اليمن والإنفصال بالتالي لايعد في نظر الإمامة الزيدية وأتباعها خيانة وطنية، بل هو عمل عبادي يعيدون من خلاله الحق إلى أهله كما يدّعون.وقد تعتبر الـ47 سنة التي هي عمر الجمهورية من أقصر المُدَد التي حاول الإماميون استعادة الحكم بعدها، إذ حدث وإن استعادوه بعد أكثر من قرن وذلك بعد حكم الصليحيين وغيرهم، وعادة ما تتم الإستعادة من "صعدة" التي يحرصون على بقاء المشروع الإمامي مجسداً فيها بشكل أو بآخر.

ثانياً البعد الجغرافي:منطقة التمرد الحالي منطقة حدودية على أطراف البلاد ويحرص الحوثيون فيها على عدم تقدم قوات الحكومة، كما يحرصون في المقابل على عدم تشتيت جهدهم باشعال نقاط توتر في مناطق اخرى.

ثالثا ً البعد الدولي: إن قيام دولة شيعية في جنوب الجزيرة العربية على الحدود بين دولتي اليمن والسعودية سيوفر مجهود عشرات السنوات في نشر التشيع ومد النفوذ الإيراني في المنطقة، وبالتالي فإن الفرصة لا تتكرر حتى وإن ادى الامر إلى استياء شعبي عربي من هذه الخطوة. إذ سيربط الإيرانيون ميلاد الدولة الجديدة بحديث عريض عن مجازر إبادة وعن اضطهاد كمبررات... الخ. وسيحاولون مد دولة المتمردين بشتى عوامل الوقوف مادياً وسياسياً. بل قد تعلن إسرائيل استنكارها السريع والشديد من قيام هذه الدولة الإنفصالية الأمر الذي يكسب دولة المتمردين تعاطفاً جزئياً في شعوب الوطن العربي.

رابعاً: المؤشرات الأخيرة:يحرص الحوثيون على جعل الشرط الأهم والأكبر لأيّة هدنة أو ايقاف للقتال هو عودة القوات الحكومية إلى مواقع بعيدة جداً وإخلاءأجزاء صعدة من أي تواجد عسكري حكومي، وهو مطلب غير منطقي وغير مقبول بكل المقاييس والأعراف لكنه أقرَّ في اتفاق الدوحة الذي دانه الرئيس قبل شهر في حواره الشهير مع صحيفة الحياة.

وقد تحدث أحد التقارير الغربية عن أن قوام المتمردين يبلغ اثني عشر ألف مقاتل مزودين بأسلحة مطورة.. أي أنهم اصبحوا بمثابة جيش مقابل الجيش الحكومي، ويبدو أنهم المتفوقون من الناحية التقنية ووسائل الإتصال والتشويش وهذا يبدو واضحاً بعد العثور بواقع الصدفة على طائرة تجسس إيرانية الصنع طافية في مياه ساحل حضرموت والأرجح أنها ضلت الطريق من صعدة وخرجت عن نطاق السيطرة الأرضية إلى أن ترنحت.

تغيير فرض نفسه

يبدو أن أهداف حركة التمرد الإمامي كانت في بداية الأمر محصورة في سعيهم للوصول بحركتهم إلى ما يشبه حزب الله في لبنان.. أي أنهم كانوا يريدون أن يفرضوا على الدولة والمجتمع أن يكونوا جماعة مسلحة لها الحق في الاحتفاظ بسلاحها والتعبير عن نفسها بالشكل الذي تراه مناسباً وصولاً إلى أن تصبح رقماً سياسياً ذا شوكة عسكرية يطالبون بعدها بحصة في الحكم كخطوة تدريجية لانتزاع الحكم كلياً.

غير أن ما نتج عن المواجهات بينهم وبين الدولة وكذا ما استجد على الواقع الدولي فيما يخص حزب الله والعراق جعلهم يصرفون النظر عن هذا السيناريو الطويل والممل وذلك لانتفاء جدواه على الواقع العملي، فتركز الهدف باتجاه" دولة على النمط الخميني" وبالتالي زاد انحشارهم نحو الحدود واستماتتهم على المساحات..
من الصعب، بل من المستحيل قراءة ما يحدث في صعدة بمعزل عن تأثير أبعاد التأريخ والجغرافيا والبعد الإقليمي ومعطيات المعركة.ولهذا فإن ضبابية الأزمة في نظر الشعب اليمني والشارع العربي والدولي وهو أمر يصب بالتأكيد في صالح مغامرة الاجترار الإيرانية، ومجريات الأحداث حتى الآن تجعل باب المفاجآت مفتوحاً على مصراعيه.

- إن ما يحدث في صعدة ليس تمرداً داخل دولة وإلا لكان الحصار الأمني كافياً لإضعافه.
- إن الطرف المتمرد ينكر اتهامات الدولة له ويستمر في قتالها دون أية مطالب واضحة.
- أنه وإن كان له مطالب فليس ثمة مانع على الإطلاق من إعلانها ووقف القتال وتسليم السلاح للدولة.
- ليست حرباً مذهبية بحتة إذ الدولة أصلاً دعمت المتمردين بادئ الأمر وساعدتهم على نشر مذهبهم وغضت الطرف على إزاحة وإقصاء من عداهم.
- السلطة أعلنت صراحة عن حقيقة المخطط الانفصالي الحوثي عن طريق أكثر من بيان صادر عن مجلس الدفاع الوطني الذي كشف عن مخطط انقلاب على النظام الجمهوري ومعلوم أن المخطط ليس انقلابياً من داخل عاصمة الحكم بل انفصالياً من إحدى مناطق البلاد الحدودية . وهو ما لم يكن بحاجة إلى توضيح صارخ.

علماً أن الإمامة ليست تهمة حكومية تلقي بها السلطات على المتمردين، بل هي العنقاء العجوز التي تطل بقرونها من بين رماد القرون كلما ظن اليمنيون أنها دفنت في مقابر التأريخ.

هذا ما يقوله التأريخ فيما مسألة الانفصال من وجهة نظر الزيدية تعد أصلاً شرعياً يتمثل في مشروعية الخروج ولو على إمام زيدي من البطنين كما فعل القاسميون ببعضهم ومثلما خرج محمد قاسم الحوثي على الإمام الهادي منتصف القرن التاسع عشر .

ومن الواجب التذكير على إن الزيدية مذهب سياسي وليس فقهياً.. إذ هي رافعة سياسية تقود إلى استحقاق ملح وهو زعامة آل البيت، أما فقهياً فهي حنفية المذهب وعقدياً تتبع التيار المعتزلي . فبالتالي دعوة "الشباب المؤمن" إلى إحياء ما يدعون أنه الزيدية هي دعوة إلى إحياء جوهرها السياسي وليس الجانب الفقهي.

خلاصة:
في الجنوب صنعوا الوحدة.. ويريدون الوحدة.. ويرفع بعضهم شعار الانفصال من باب الضغط الجاد على السلطات علّها تأخذ على يد النهاية واللصوص وتشرع إلى الإشراك العادل في الثروات وإدارة الشأت العام.

وفي صعدة.. يعلنون ولاءهم للدولة والوحدة والرئيس.. ويقتلون الجند والمواطنين ويمارسون الحكم الذاتي.

________
نشوان-خاص

زر الذهاب إلى الأعلى